2011

04 – أيقونات حيّة - كلمات إلى شاعرة من بيزنطية - أسعد قطّان- العدد 2 سنة 2011  

 كلمات إلى شاعرة من بيزنطية

أسعد قطّان

 

»يا ربّ إنّ المرأة التي سقطت في خطايا كثيرة،

لمّا شعرت بلاهوتك اتّخذت رتبة حاملات الطيب«

 

بلى، بلى! يا صديقتي كاسياني! إنّك تتوارين وراء صمتك، رغم كلماتك الذهبيّة المنثورة كدراهم العروس في كتبنا الليتورجيّة. كيف للمؤرّخ أن يدبّج نصًّا في سيرتك، والثغرات في المصادر تكاد تبتلع اليقين، والحقيقة تمتزج بالأُسطورة، وخيال الرواة يجندل موضوعيّة العلماء؟ حتّى اسمك نقلته إلينا الكتب القديمة في ألف شكل وشكل. منذ القرن الرابع عشر، وبنو الإغريق يدعونك »كاسياني«. لكنّ المؤرّخين يجمعون على أنّ هذا لم يكن اسمك الحقيقيّ. فالمخطوطات الأقدم تارةً تسمّيك »كاسيّا« وطورًا »إيكاسيّا«. ويبدو أنّ قانون الأموات، الذي ألّفته، تشكّل الحروف الأولى لمقطوعاته اسم »كاسيّا«. هكذا تركتِ لنا اسمك الحقيقيّ محتجبًا وراء النصّ الليتورجيّ. كاسيّا! ما هذا الاسم الغريب الذي لا نعرف له مثيلاً في ما وصل إلينا من تاريخ الروم ومآثرهم، ويحار المرء في أصله؟ بعضهم يردّه إلى اللاتينيّة، وبعضهم ينسبه إلى ضرب من ضروب النبات. أمّا آخرون، فيعتبرون أنّك تحملين اسم بنت أيّوب الثانية في شكله اليونانيّ. ولكن، ما فائدة الأسماء حين يرتسم وجهنا عبر ما ندوّنه من كلمات، أو يحتجب وراءها؟ ومن قال إنّ أسماءنا تقرّر مصائرنا؟

 

»وقدّمت لك طيوبًا قبل الدفن منتحبةً وهاتفة: ويحي!

لقد حصل لي شغف الفجور، وعشق الخطيئة، ليلاً قاتمًا فاقد الضياء.

فاقبل ينابيع دموعي، يا من يجتذب البحر بالسحب،

وانعطف لزفرات قلبي، يا من أحنيتَ السماوات بتنازلك الذي لا يدرك«.

 

يا كاسياني الماخرة إلينا بحر الزمان البليد السحيق على شراع الكلمات اللامعة! يطيب لك أن تتركي، في بعض ما ألّفته من قريض، إشارات خفيّة إلى ذاتك. فهل عشقت الخطيئة قبل دخولك الدير، مثل المرأة التي كتبت عنها، في نصّك الذي نرتّله مساء الثلاثاء العظيم، كلامًا لم يأتِ بمثله أحد من شعراء بيزنطية من قبلك أو من بعدك؟ ولماذا يمّمت وجهك شطر الدير؟ لقد جعل منك الرواة ابنة عائلة قسطنطينيّة نبيلة. وتؤكّد ذلك الرسائلُ الثلاثُ التي رفعها إليك، وأنت بعد في صباك، القدّيس ثيوذوروس الستوديتيّ (759-826)، شيخ المدافعين عن الأيقونات في مطلع القرن التاسع. ولكن، هل يجعلنا الأصل النبيل أقلّ تعرّضًا للخطيئة، أم يمعن في مضاعفة تجاربنا؟ زعموا أنّك فقتِ بنات جيلك حكمةً وفهمًا ومعرفةً بالثقافة الإغريقيّة، حتّى إنّ القيصر ثيوفيلس (829-842)، وكان معاديًا للصور المقدّسة، كاد يتّخذك زوجةً له لولا أنّك قارعته في المعرفة اللاهوتيّة وأفحمته. قال لك: »السيّئات أتت بالمرأة«. فجاوبته: »لكنّ الأُمور الفضلى صدرت من المرأة أيضًا«. أجمع الرواة على أنّه يقصد الشرّ الحاصل بمعصية حوّاء، فيما كنت أنت تومئين إلى تجسّد ابن اللَّه الصائر بواسطة مريم. بعضهم ذهب إلى أنّ هذه المشادّة تبيّن موقفه الرافض الأيقونات، وذلك استنادًا إلى وصيّة العهد القديم ألاّ نصنع لنا صورةً أو منحوتًا، فيما تُظهر اقتناعك بإمكان تصوير ابن اللَّه ارتكازًا على أنّه صار بشرًا، وأقام في وسطنا، وعاينّاه. قالوا إنّ القيصر، رغم تعلّقه المجنون بك، لم يُرِدْ لنفسه امرأةً تفوقه ذكاءً، وهذا لعمري حال رجال الأرض قاطبةً لم يتغيّر إلى اليوم، فانصرف عنك إلى منافستك ثيوذورا. وهي، على الأغلب، أدنى منك جمالاً وثقافة، لكنّها تضارعك في حبّها الأيقونات. فلم تتلكّأ في ردّ الاعتبار إلى الصور المقدّسة إثر موت زوجها القيصر، ثمّ طوّبتها الكنيسة. أيّ صراع خفيّ هو هذا بين الشاعرة التي جرحت كبرياء القيصر، فانكفأ عنها مرغمًا، والفتاة التي صارت زوجته، ثمّ ما لبثت أن محقت فكره المنحرف ما أن ثوى في اللحد؟ لقد ارتاب كُثُر في تاريخيّة هذه الأحداث. فالروايات متناقضة. ولعلّها أقرب إلى الخيال الشعبيّ من قربها إلى التاريخ الذي لا يغشاه زغل. أين هي الحقيقة؟ وما السبيل إلى التأكّد من صدق الرواية؟ وبعد، من قال إنّ التاريخ يختزل اليقين؟ أليس ثمّة حقيقة تسكن وجدان الناس وتحرّكهم، حتّى لو لم يتسنَّ لها الارتقاء إلى مصافّ الموضوعيّة التاريخيّة؟

 

»فأُقبّل قدميك الطاهرتين، وأُنشّفهما بضفائر رأسي،

اللتين لمّا طنّ صوت وطئهما في مسامع حوّاء،

في الفردوس، جزعت واستترت خوفًا«.

 

أين تتفتّق الحكاية، يا كاسياني، وأين تنقفل؟ ومتى ينكمش التأريخ جزرًا، فتنبسط الرواية مدًّا؟ وكيف لا تكون قصّتك مدًى مفتوحًا على اللانهاية، وكلماتك تتقافز أمامنا على الصفحات الليتورجيّة التي تنوء باللحظات العظام من الطفل الميلاديّ الذي يفوق أغسطس رفعةً إلى حوّاء المستترة في الفردوس خوفًا من طنين صوته. قيل إنّ الرجل، الذي لم يستطع سبيلاً إلى نسيانك، أمّ الدير، ذات يوم، وكانوا يدعونه »دير كاسيّا«، وقصد قلاّيتك. لقد أدركتِ، بحدسك الشعريّ، أنّ جرح الحبّ في فؤاده لم يندمل بعد. هكذا قصص الحبّ، يا كاسيّا، مدّ لا يعرف جزرًا، تفتّق دائم. وكذلك حكايات العشق الإلهيّ، هي أيضًا انبساط لا يقرّ، وعراك لا ينتهي. في ذلك اليوم، كوّمتِ ذاتك في أحد مخابئ القلاّية، واستترتِ عن عيني القيصر جزعًا، بعدما طنّ صوت وقع أقدامه في مسامعك. من المؤكّد أنّه لم يكن يضاهيك ذكاءً. لكنّه كان على مقدارٍ كافٍ من الحدس، ليعرف أنّك تواريت في إحدى زوايا القلاّية. لم يشأ هذا، الذي حارب الأيقونات بشراسة، أن يجرح انسحابك إلى ذاتك، وصمتك، وخجل الشعراء في عينيك الجميلتين. اكتفى بالاقتراب إلى مكتبك الذي يعـجّ بالأوراق، فوقع على نصّك البديع، هذا النصّ الذي ما زال المؤمنون والملاحدة، والأطهار والزناة، يؤمّون الكـنيسة إلـى اليـوم، ليتنعّموا بموسيقاه الهادرة وبتوبة المرأة الخاطئة في أيقونة كلماته. قيل إنّه قرأ »أُنشّفهما بضفائر رأسي«، فخطّ مضيفًا »اللتين لمّا طنّ صوت وطئهما في مسامع حوّاء في الفردوس جزعت واستترت خوفًا«، ثمّ قفل عائـدًا إلـى قصـره. أمّا كاسيّا، لـمّا خرجت من شرنقتها، فلم تمحُ الإضافة ولم تجرِ عليها أيّ تعديلات. واصلت الكتابة بهدوء وخفر، كما لو أنّها تهتف بالقيصر: »لقد افترقنا، يا سيّدي، في الحياة، لكنّنا التقينا في الشعر«.

 

»فمن يفحص كثرة خطاياي ولجج أحكامك،

فيا مخلّصي المنقذ نفسي لا تعرض عنّي، أنا أمتك،

يا من له الرحمة التي لا تحصى«.

 

من يفحص، يا كاسياني، كثرة خطايانا إلاّ المنقذُ نفسَك؟ ومن يرسم الحدود بين الحقيقة والخيال إلاّه، في اليوم الأخير؟ لقد ضاقت السماوات بسرّ انغراسه في دنيانا، وانكمشت الأرض أمام سرّ انفراط حياته كالعقد على الصليب، فكيف لا يكون ولوج عتبات الشعر هو أكثر الطرائق رفعةً لمقاربة أسراره التي لا يُسبر غورها؟ إنّ أناشيدك، التي ما زال العلماء إلى اليوم يتتبّعون أثرها في مجلّدات مصفرّة على رفوف مكتبات في ديورة عتيقة، ويحارون في أمر موسيقاها، تعجّ بالعقيدة. كيف لا يكون الأمر كذلك، وقد وضعتها في القرن التاسع، بعد عقود من التئام آخر المجامع الكبرى في نيقية (787)، هذا الذي شدّ إزر الأيقونات، وجعل الكنيسة الشرقيّة مكانًا يستطيب الجمال أن يستوي فيه. بيد أنّ التحديد العقيديّ، على أهمّيّته وضرورته للكنيسة، ليس المرمى الأخير. فحين يضجّ النشيد، يمسي النشيد هدف ذاته، إذ فيه تلتقي القلوب بالإله المتجسّد، فتتطهّر، وترتفع. وخلف ضباب النشيد يستتر وجه الشاعرة، لئلاً يطلّ منه أيّ شيء آخر غير وجه المخلّص. ولكنّ محيّاك، يا كاسيّا، يستبين في حِكَم لك من خارج التراث الليتورجيّ ظلّت، طوال قرون، دفينة حفنة من المخطوطات. وفيها تظهر المتوحّدة التي تعرف النفس البشريّة معرفةً عميقة، ولا تأنف من الكتابة في شؤون الدهر، فتمدح الصداقة، وتذمّ الغباء، وتقول كراهيّتها للصمت حين ينفع الكلام، وللكلام حين ينبغي الصمت. لماذا أقبل النسّاخ على أناشيدك، حتّى إنّهم نسبوا إليك بعض ما أبدعته قريحة سواك من شعراء الروم، وتردّدوا أمام حِكَمك التي تعنى بشؤون البشر عمومًا من خارج الليتورجيا؟ ألعلّهم ارتاحوا إلى الكلام الإلهيّ، لأنّهم حسبوا أنّ فيه يضمحلّ وجه الشاعرة، وجه الأُنثى؟ وإذا كان هذا الوجه لا يتبدّى واضحًا، بل يجتهد في الاحتجاب، فهل يضمحلّ فعلاً؟ ألا يلوح خَفِرًا من خلف اسمك المرموز إليه في أبيات القانون المكتوب على اسم الأموات، ومن وراء غلالة المرأة التي سقطت في خطايا كثيرة، فطلبت وجهًا جديدًا عند قدمي يسوع؟ وأيّ تفسير، غير تفسير الأُنثى، الذي حدس به الكاتب البيزنطيّ ثيوذوروس بروذروموس في القرن الحادي عشر، أُقدّمه أنا القارئ المحلّل لكونك، بخلاف ما توحي به الترجمات إلى لغة الضادّ، أسقطت فتيان العبرانيّين، وأبقيت على فتياتهم (خروج ١٥: ١ و20- 21)، حين كتبتِ، ذات يوم: »إنّ أولاد الذين نجوا من الغرق قد أخفوا تحت الثرى الإله المُخفي، قديمًا، في أمواج البحر السفّاح المغتصب. أمّا نحـن، فلنسـبّح الـربّ كالفتيـات، لأنّـه بالمجـد قـد تمجّد«.l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search