2011

02 – رعائيّات - الرعاية المتخصّصة - المطرن سابا إسبر- العدد 2 سنة 2011

 الرعاية المتخصّصة

المطرن سابا إسبر

 

أفرزت بساطة الحياة في الماضي نوعًا من الخدمة الرعويّة متناسبًا معها. ففي مجتمع زراعيّ، متكاتف عائليًّا، وذي متطلّبات محدودة، وحياة إيقاعها بطيء، والتزام شبه تامّ بتقاليد المجتمع ومفاهيمه المعيشيّة، لا يواجه المرء متطلّبات حادّة وأحيانًا غريبة، كما اليوم، ولا توجد تعقيدات معاشيّة تؤثّر في نفسيّته كما في عالمنا الحاليّ. في مجتمع أمّيّ، أكثر أفراده لا يعرفون القراءة والكتابة، يصير الكاهن هو الأكثر ثقافة بينهم، لكونه يعرف القراءة والكتابة، على الأقلّ. يحكي لنا الأجداد، كيف كانوا يتحلّقون حول الكاهن، ليقرأ لهم قصص القدّيسين من كتاب السنكسار في ليالي الريف الطويلة، وكيف كانوا يقصدونه، ليكتب لهم رسالة يودّون أن يرسلوها إلى ابنهم في بلاد الاغتراب.

إلى ذلك، كان الكاهن يعيش كما باقي أفراد رعيّته، له أرضه التي يفلحها ويزرعها ويعتني بها ليأكل وعائلته من خيراتها. عنده وقت ليعمل في أرضه، لأنّ الخدمة الكهنوتيّة كانت مقتصرة، في الغالب، على إقامة الصلوات الكنسيّة في أوقاتها يوميًّا وأسبوعيًّا وسنويًّا. وخارج خدمته الليتورجيّة، كان الكاهن يمارس حياة عمليّة مشابهة لأبناء رعيّته.

تغيّر المجتمع كثيرًا خلال القرن الماضي، ووتيرة تغيّره باتت أسرع بكثير مع أواخر القرن الماضي ومطلع القرن الحاليّ. صار الأمّيّ نادر الوجود، وبات الكلّ يرتاد المدارس، وفتحت الجامعات أبوابها لطالبي العلم، ولهم عند المسيحيّين نسبة عالية. حين كنّا صغارًا، كانت الوظيفة العليا لحامل الشهادة الثانويّة، وكان يُنظر إليه كخاتمٍ للعلم. لكنّي أذكر أنّه عندما صرت في المرحلة الثانويّة، فتحت الدولة مؤسّّسة استهلاكيّة (تعاونيّة) في حيّنا كان شرط الموظّف فيها أن يحمل شهادة البكالوريا. أي صارت الشهادة الثانويّة شرطًا ليعمل المرء بائعًا.

كان الطبّ عامًّا، فالطبيب يداوي جميع الأمراض، بينما صار اليوم لكلّ جزء من الجسم، مهما صغر، اختصاص خاصّ، وبعده اختصاص في جزء من الجزء. والأمر يصحّ على جميع مرافق العلم والحياة. إذ أفرز نمط الحياة الجديد والمتسارع هذا أخلاقيّات وسلوكيّات جديدة على المجتمع، ولها إفرازاتها وانعكاساتها المعيشيّة والنفسيّة والأخلاقيّة والروحيّة على الإنسان.

إزاء الأوضاع هذه، ما هي الحال في الكنيسة؟ إن لم نقسُ في النقد، نقل إنّ الكنيسة بقيت، وما تزال، متخلّفة عن ركاب هذا التغيّر. ولعلّ ليس كلّ التخلّف تقاعسًا، وإن كان أكثره هكذا، إلاّ أنّنا لا نستطيع أن ننكر أن لا خبرة سابقة للكنيسة بمشاكل الإنسان الحاليّة. فالحقيقة أنّ تحدّيات العالم المعاصر، ومشاكل الإنسان فيه وأمراضه وحاجاته لم تواجه البشريّة، وتاليًا مثيلاً لها من قبل. ما يجعل الكنيسة في مواجهة أوضاع لم يسبق لها اختبارها وتاليًا لا تستطيع إعطاءها جوابًا سهلاً وسريعًا.

تقليديًّا، انحصرت الرعاية بشخص الكاهن في الماضي، ما أبقى نظرتنا إلى الكاهن الراعي نظرة جامدة، تحصر خدمته في الأداء الطقوسيّ تقريبًا. ومع افتتاح معهد اللاهوت في البلمند، بقيت الخدمة الكهنوتيّة، في أكثر الأبرشيّات، قائمة على كهنة يؤدّون الطقوس، ولا يقدرون على الوعظ، وتاليًا لا يتعاطون أمور التربية قطّ.

تغيّر الوضع الآن في كلّ أبرشيّاتنا، ولكن ما زلنا نتعاطى مع الكاهن عبر الوظيفة الليتورجيّة فقط. فالرعيّة المحظوظة اليوم هي الرعيّة التي يرعاها كاهن تقيّ متخرّج من كلّيّة اللاهوت ونشيط اجتماعيًّا. وتبقى هذه الرعيّة »المحظوظة« أربعين أو خمسين سنة لا تعرف رعاية تذكر خارج إطار هذا الكاهن ومواهبه.

ما زالت النظرة إلى الرعاية محصورة بكاهن متعلّم. فهل يقدر كاهن، ولو كان سوبّر كاهن اليوم على أن يتعاطى رعاية الأطفال والمراهقين والمقبلين على الزواج والمتزوّجين والمتقاعدين والشيوخ؟ وأيّ كاهن له من المواهب ما يؤهّله لأن يكون قادرًا على حلّ الخلافات الزوجيّة، والتحدّيات الشبابيّة والاجتماعيّة، ومواجهة الهرطقات والبدع المنتشرة؟ وأين نجد من يعرف كيف يرافق المعاقين واليتامى والمرضى وذوي الحاجات الخاصّة والمحتضرين؟ إضافة إلى الوعظ الذي هو من أساس الخدمة الليتورجيّة: كيف نؤهّل اليوم الكاهن ليكون واعظًا، وكيف ندرّبه على الوعظ حتّى يكون وعظه بنّاءً ومفيدًا، وكيف يتعلّم الكاهن أن يميّز المستمعين ليعظهم بما يفهمونه وبما هم بحاجة إليه، ويخاطبهم بحاجاتهم؟ 

عاد عصرنا لا يكتفي بما كان عليه الكاهن من مؤهّلات في الماضي. وأنا هنا لا أقترب من التقوى والإيمان اللذين هما شرطان لازمان ولا غنى عنهما لأيّ كاهن، أيًّا كانت مواهبه وحتّى لو لم يكن عنده أيّة موهبة. كما أنّني لا أقصد بخدمة الكاهن في الحقول التي ذكرت إلاّ البعد الخلاصيّ الشخصيّ. هذه المقالة لا تتعرّض للبعد الخدماتيّ المؤسّّساتيّ الذي هو أحد واجبات الكنيسة تجاه شعب اللَّه.

لم يتقبّل وجداننا الكنسيّ بعد فكرة الكاهن المتخصّص لكوننا لم نستوعب بعد المتغيّرات الهائلة التي حولنا، ولم نتوصّل إلى رؤية شاملة للحاجات المطلوبة ما يسمح بوضع سياسة عامّة وخطّة واضحة للرعاية. والواقع أنّ الرعاية ما تزال محصورة في شخص كاهن الرعيّة الوحيد الذي يشرف على كلّ الخدمات ويتابعها. من مفرزات عقليّة كهذه شعور يتنامى عند الكهنة، لا سيّما المتعلّمين منهم، مفاده أنّ الرعيّة ملكهم الشخصيّ ولا يُسمح لأحد آخر بأن يدخلها إلاّ إذا رضي كاهنها عنه وأراده. قد يحتاج عرض هذا المرض المستشري بين كهنتنا اليوم إلى مقالة خاصّة. ولكن، عندما ننادي بالرعاية المتخصّصة، هل نقصد أن يتغيّر وجه الرعاية القائم على وجود راعٍ؟

بالتأكيد، ليس هذا المقصود. غاية هذه الكلمات القول إن الرعاية التقليديّة، كما عرفناها في الماضي عادت لا تكفي اليوم، والكنيسة بحاجة إلى رفدها بما يؤمّن خلاص شعب اللَّه في ظروفه وواقعه وحاجاته الحاليّة. من هنا نرى أوّلاً ضرورة إشراك أفراد من شعب اللَّه موهوبين في الرعاية إلى جانب الكاهن. وثانيًا إقامة دورات تخصّصيّة يتابعها الكهنة وبعض المؤمنين، تساعدهم على تنمية مواهبهم وصقلها بالعلم اللازم، والخبرات المفيدة، ومن ثمّ وضع هذه الشخصيّات، إكليريكيّة كانت أو علمانيّة، في خدمة شعب اللَّه وفقًا للخطّة الرعائيّة المرسومة.

باتت الرعاية بحاجة إلى تخطيط وخطّة وأهداف وسبل مدروسة لتحقيق الأهداف. من هنا نرى ضرورة أن يكون للكاهن رعيّة خاصّة، يرعاها بقدر ما يعطيه اللَّه من قدرة وموهبة، ويرتبط الكاهن من طريق الخطّة الرعائيّة الموجودة في الأبرشيّة، بفريق رعائيّ يؤمّن الحاجات الأُخَر لرعيّته والتي لا يستطيع هو تأمينها، أو هناك من هو أقدر منه على ذلك.

هذا يؤمّن خدمتين: الأولى تأمين الرعاية الخاصّة للحالات الخاصّة. والثانية عدم حصر المسيح بشخص كاهن الرعيّة الذي لا يرى أبناء الرعيّة سواه .

على سبيل المثال. إذا وجد في الأبرشيّة شخص موهوب بالوعظ، فما المانع من أن تكون له دورة، من فترة إلى أخرى، على كنائس عدّة كي يستفيد الناس من وعظه؟ ولا تنحصر الفائدة في رعيّته الخاصّة، بينما قد تقضي رعيّة أخرى سنوات طويلة من دون وعظ لأنّ كاهنها غير قادر عليه. كذلك الأمر في التعليم ومرافقة الأزواج الجدد وذوي الحاجات الخاصّة...

وما المانع من فرز كاهن موهوب بخدمة محدّدة، ليخدم شعب اللَّه عبرها. مع ضرورة أن تكون له رعيّة خاصّة صغيرة العدد، حتّى لا يتحوّل إلى كاهن أكاديميّ، في حال لم يكن كاهنًا راهبًا يعيش في شركة.

إلى ذلك، بتنا بحاجة ماسّّة إلى رعاية متكاملة ليس ضمن الأبرشيّة الواحدة فقط، بل بين الأبرشيّات جميعها أيضًا. فرعاية العائلة تقتضي في عصرنا إطلاق خدمة خاصّة بها. لهذه الخدمة فريقها المكوّن على نطاق الأبرشيّة والنطاق الأنطاكيّ العامّ، من متخصّصين بشؤون العائلة، وآباء روحيّين لهم خبرة في الإرشاد الروحيّ العائليّ. خدمة كهذه تقتضي اجتماعات دوريّة، رياضات روحيّة، لقاءات عامّة سنويّة...

كذلك الأمر في الأمور الأخرى. إن أردنا كنيسة حيّة يفعل فيها الروح القدس بفعاليّة وحيويّة، علينا أن نفتح عيوننا على واقع حياة المؤمنين، وعدم الابتسام والرضى لمجرّد رؤية الكنيسة ملآنة بهم. إذ مجرّد وجودهم في الكنيسة في أثناء الخدم، لا يعني أنّ خلاصهم قد تحقّق، كما أنّ الغائبين هم أكثر بكثير من الحاضرين.

حتّى تصل بشرى الخلاص إلى شعب اللَّه، على الكنيسة أن تستخدم لغة الناس، أن تخاطبهم بلغة يفهمونها، أن تلاقيهم في أوجاعهم، في آمالهم، في أحلامهم، تطلّعاتهم. هذا يقتضي بشارة لا بالكلام فقط، بل دائمًا بشارة محبّة »بالعمل والحقّ« (1يوحنّا 3: 18 ).l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search