2020

1. الافتتاحيّة - إلى الإخوة في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة - الأب إيليّا (متري) – العدد الخامس سنة 2020

الافتتاحيّة

إلى الإخوة في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة

الأب إيليّا متري

 

ما طمحت إليه الحركة، في انطلاقتها ومسراها، لم يقتصر على نهضة الكنيسة في أنطاكية. كانت الرؤية أن تنطلق النهضة من الكنيسة إلى حياتنا في هذه الأرض، حياتنا وحياة الآخرين، قريبين وبعيدين. أراكم. أسمعكم. أقرأكم. ليس من «مجتمع» في لبنان حرًّا من السياسة. لبنان موتور، لبنان أكثر من موتور. رددتُ على فتاة صديقة طالبت أن يتركنا، إلى غير رجعة، الذين لا يفعلون شيئًا بيننا سوى أن يؤلّهوا زعيمهم: «لا يمكننا أن نعزل من بيت اللَّه أحدًا. الإنسان يعزل نفسه إن صفع بابنا وراءه إلى غير رجعة». الكنيسة ملتقى. الحركة ملتقى. لا أشرّع التبعيّة العمياء لأيّ زعيم في هذه الأرض! أتكلّم على التزام الإطار الثابت الذي يساعدنا على الاستقرار في أنّ «اللَّه أحقّ بالطاعة من جميع الناس»!

هذا معناه أن نذكّر أنفسنا دائمًا بأنّ يسوع، للمؤمنين به، هو خيار الحياة «الآن وهنا». هذا لا يعني أن نترفّع عن التزام شؤون الأرض، بل أن نقول، في هذا الالتزام الواجب، إنّنا نسير وراء يسوع الذي قال إنّه أتى من أجل أن «تكون لنا الحياة، وتكون أوفر». هذا هو أمر الكلمة. ليست الكلمة عالمًا في العالم ووطنًا في الوطن، بل ملح هذا العالم ونور هذا الوطن. إنّها أن تجعل من هذا العالم كلّه مدًى يخصّ اللَّه، أكثر فأكثر. من النافل أن نقول هنا إنّ المسيحيّة مذهب تجسّديّ. أن تلتزم شؤون الأرض، أمر لا يصحّ فعلًا إن لم تأت من هذه الحقيقة التي ليس مثلها حقيقة في الكون، أي أنّ «الكلمة صار جسدًا».

بكلامٍ واحد، نحن مدعوّون إلى تعظيم وعينا ما فعله اللَّه في سبيل خلاصنا. لاحظوا! تبدو الكلمات، التي تقرأونها الآن، حثًّا على الابتعاد عن العالم، دعوةً إلى أن نحيا غرباء في الأرض، قرارًا أخيريًّا يشبه «القرارات الرهبانيّة». لن أخجلكم! اعتقادي الكامل أنّ طلب الوحدة باللَّه هو، في المسيحيّة، أسلوب القربى، أي، هنا، الانخراط في العالم وشؤونه وقضاياه. إنّه «ابتعاد» عنه من أجل تفرّغ له أعظم يساعدنا على أن نُسهم في تجديده، فعلًا. نحن نعتقد أنّ مشاكل العالم عظيمة للوهم عينه الذي جعل آدم خارج الفردوس. لا حياة من دون اللَّه. هذا أمر يخصّنا في الكنيسة وفي أيّ شأن آخر يخصّنا في العالم.

أمّا لبنان، فقضيّة. لبنان وسورية والعراق وفلسطين... لا حياة يمكن أن تكون سليمةً إن لم تكن للإنسان قضاياه. إن قلنا إنّ هذا يفترض التزامًا لشؤون أرضنا، فيعني التزامًا من داخل وطننا أوّلًا. أصارحكم. أشخاص عديدون، في هذه الأيّام الأخيرة، صدّوني على قولي إنّ الوطن قضيّة. أفهم صعوبة الكلمة في بلادنا. هنا كلّ شيء مختلف. كلّ شيء تتجاذبه صراعات، داخليّة وخارجيّة. أكتب هذه السطور مثلًا في وقتٍ يستعدّ لبنان فيه لتأليف حكومة جديدة. الذي نسمعه حثًّا على استعجال التأليف معظمه كلام على وضعنا الاقتصاديّ المهترئ ومواجهة وباء يحكم العالم منذ نحو سنة. هذا كلّه يمكن أن تكون له سبل معالجته. ولكن، كيف تعالِج الناس بإقناعهم بأنّ وطنهم قضيّة؟ كيف تساعدهم على خيار البقاء في بلد لا يرون فيه شيئًا مضمونًا سوى أزماته؟ قرأت دراسةً عن هجرة اللبنانيّين في الربع الأخير من القرن المنصرم. تعلمون مشكلة الإحصاءات في بلدنا. ولكنّ الدراسة ترجّح أنّ عددهم يفوق المليون ومئة ألف شخص! أكثر من مليون شخص من بلد يعدّ سكّانه نحو أربعة ملايين، كارثة فعليّة! مَن رجع منهم؟ لا إحصاء! أليس بقاء الناس في وطنهم سببًا كاملًا يدفعنا إلى أن نعالج استحقاقاتنا بموضوعيّة أعظم؟

لا أقصد أن أكتب بتفصيلٍ عن الهجرة اليوم. المعلوم أنّ الكثيرين رحلوا (من سورية والعراق ولبنان...) والكثيرين وجّهوا عينَيهم إلى خارج ينادي أو ينتظر. يبدو أنّ مدانا محكوم عليه بأن «يفرغ» دائمًا! أعرف، مثل كثيرين أعرفهم، أنّ بقاء الناس في أرضهم لا يعالجه أن نحضّهم على البقاء. المشاكل، التي تدفع الناس إلى الهجرة، عظيمة. إذًا، بقاؤهم يفترض حلولًا عظيمة. لا أقرّر عن أحد. كلّ ما يهمّني أن يقوم الذين ينادون الناس أن يبقوا، من القيادات الكنسيّة والوطنيّة، إلى فعل ما يجعل قولهم واقعًا. أعتقد أنّ أكثر ما نحتاج إليه اليوم في هذا المدى كلّه، إلى العلم والطبابة والحياة بسلام...، أن نصدّق أنّ الحياة السياسيّة (وغيرها) يمكن أن يتعاطاها أناس لا ينظرون إلى ما هو لهم، بل إلى الخير العامّ.

ما حدث بعد انفجار ٤ آب، أي اندفاع الإخوة إلى أن يخدموا الحياة في بيروت، يقول إنّ جماعة النهضة، أي الإخوة في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة الذين أناديهم في هذه السطور، هي فعلًا جماعة الفعل الأخويّ. لا أغمض عن الحبّ العظيم الذي يبدي أنّ النهضة لا تُحتكَر. لكنّي أخصّ الذين أعرفهم يوميًّا. كلّ إنسان نهضويّ في هذا المدى، في لبنان وسورية...، يجب أن يقول الناس، أترابه، عنه إنّهم لا يستطيعون أن يحيوا من دونه! هذا تعلّمته على فتاة صغيرة كانت تعلّق على هجرة الذين تراهم يرحلون أنّها لا يمكنها أن تترك أصدقاءها وراءها. الأمداء أهلها أوّلًا. هذا دافع كبير إلى البقاء وإلى التشجيع على البقاء. ثمّ الصلاة، الصلاة الدائمة التي هي نبع عزائنا وقرباننا، إلى أن يسود اللَّهُ الأرضَ ومَن فيها.n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search