2019

5. قضايا أرثوذكسيّة - صرخة وتضرّع - أناستاسيوس – العدد الثامن سنة 2019

صرخة وتضرّع

أنستاسيوس

 

1- قيل الكثير وكُتب الكثير أيضًا منذ بضعة أشهر حول مشكلة أوكرانيا الكنسيّة. لكن ما هو أهمّ من الكلام والكتابة وأكثر إلحاحًا وضرورة يكمن في التشديد على الأهمّيّة الفائقة للوحدة الأرثوذكسيّة. أعلن القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، ملخّصًا خبرة الآباء الروحيّة والتقليد الكنسيّ، وقائلاً: «لا يشير اسم الكنيسة إلى الانفصال أبدًا، بل إلى الوحدة والوئام. فالكنيسة أتت إلى الوجود ليس لنفترق بل لنكون متّحدين بعضنا إلى بعض». وقال في مكان آخر: «لا شيء يثير غضب اللَّه أكثر من الانقسام في الكنيسة». فلا بدّ إذًا من أن نأخذ هذه الحقيقة بالاعتبار في كلّ ما نفعل، إذ إنّ وحدة الكنيسة تفوق كلّ اعتبار آخر، مهما كان.

2- خلقت أحداث السنة الماضية واقعًا جديدًا لا يخلو من تدخّلات ومصالح جيوسياسيّة واضحة، ولا يمكننا تجاهله. لم يصل منح الاستقلاليّة لكنيسة أوكرانيا إلى الوحدة والسلام المنشودين، كما حصل عند منح الاستقلال لكنائس أخرى في الماضي. رفض فيلاريت، الشخصيّة الأبرز في المشكلة الأوكرانيّة، والذي نصّب نفسه «بطريركًا»، وثيقة الاستقلال (التوموس)، منتقدًا مضمونها وغايتها. وامتدّت الانقسامات إلى مناطق أخرى وإلى العالم الأرثوذكسيّ بعامّة. واستعملت بطريركيّة موسكو الإفخارستيّا المقدّسة، التي هي سرّ الوحدة والغفران الأسمى، طريقة للضغط في نزاعها مع القسطنطينيّة. فقطع ملايين من الأرثوذكسيّين حول العالم الشركة الإفخارستيّة مع البطريركيّة المسكونيّة وبطريركيّة الإسكندريّة وكنيسة اليونان. ولا تزال قضيّة شرعيّة السيامات التي قام بها فيلاريت، عندما كان مقطوعًا ومحرومًا، تثير الريب والتفرقة. شكّلت نتائج عمل البطريركيّة المسكونيّة «الجراحي» ظاهرة ليس فقط في الأوساط الأرثوذكسيّة، بل في العالم المسيحيّ كلّه.

3- حتّى الآن، يخيّم سكوت مريب على معظم الكنائس الأرثوذكسيّة. تجرح الضغوطات السياسيّة، من جهات متضاربة، مصداقيّة الكنيسة الأرثوذكسيّة الروحيّة. وتتجنّد أطراف مفتقدة المسؤوليّة لانتقاد الذين لا يشاطرونها الرأي، والثناء على الذين يدعمون مواقفها، مخرجة الحوار بين الأرثوذكسيّين من مساره الصحيح، في وقت كثير الدقّة والخطورة بالنسبة إلى الكنيسة الأرثوذكسيّة. تأمل بعض الأوساط أنّ الكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة ستعترف عاجلاً أو آجلاً  بتوموس الاستقلال. ومع أنّ قلّة من هذه الكنائس قد اعترفت به فعلاً، يبقى أنّ عددًا كبيرًا من الكنائس الأخرى صرّحت علانية أنّها ستستمرّ برفضها له. ينتج من ذلك تفتّت واضح مبنيّ على الانتساب العرقيّ (بين اليونانيّين والسلافيّين والذين يريدون علاقات متناغمة مع الجميع) يسبّب لطمة خطيرة لطابع الأرثوذكسيّة المتعدّد القوميّات والثقافات، والمنفتح على العالم بأسره. لا يصحّح مرور الزمن الانشقاقات الكنسيّة ويشفيها، بل يعمّقها ويديمها.

4- من الضرورة القصوى الآن أن نجد أساليب لتخطّي هذا الاستقطاب الكنسيّ. في عالم اليوم، تكمن الخطوة الأولى لمعالجة المنازعات في العمل على عدم تفاقمها. ويتّفق الناس بعامّة ويردّدون أنّه لا يمكن مواجهة الأزمات إلاّ بواسطة الحوار الجدّيّ. لذلك يجب علينا عدم توفير أيّ مسعى من أجل إعادة التواصل بين الطرفين الرئيسين المتنازعين في أسرع وقت ممكن، لكي يُتاح لهما المجال لتبادل اقترحات بنّاءة. ويوجد في الكنيسة الأرثوذكسيّة مَن يمكنهم المساهمة في إطلاق مثل هذا الحوار.

5- حان الوقت لوضع أسسٍ لمساعٍ جديدة مبنيّة على حقائق التقليد الأرثوذكسيّ المتأصّلة في الكتاب المقدّس. يقول الربّ: «لماذا تدعونني يا ربّ، يا ربّ، وأنتم لا تفعلون ما أقوله؟» (لوقا 6: 46 ومتّى 7: 21). وأيضًا: «أمّا أنا فأقول لكم: أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم...» (متّى 5: 44). ويطلب منّا أن نصلّي هكذا: «اترك لنا ما علينا كما نترك نحن لمَن لنا عليه...» (متّى 6: 12). ويطلب منّا بولس الرسول أن نجتهد للحفاظ على «وحدانيّة الروح برباط السلام» (أفسس 4: 3 وأيضًا غلاطية 5: 15). إذا سعينا إلى تطبيق وصايا الربّ هذه بأمانة، سيعطينا أن نبتكر طرائق جديدة للتغلّب على العنف.

6- لا بدّ من أن تكون الحلول موجودة. وقد يُنيرنا اللَّه لاكتشافها. لم نصل إليها بالطبع عبر تبادل الشتائم والنصوص الاستفزازيّة، ولا عبر تدخّلات غير كنسيّة. ولا يجوز أن تُفرض حلول من جهة واحدة أو أن توجد تلقائيًّا بمرور الزمن. كلّ تأخير للحوار سيؤزّم الوضع الحاليّ المؤلم كفاية. وحتّى إذا وُجد حلّ في المستقبل في آخر المطاف، سنكون كتبنا صفحات محزنة كثيرة في تاريخ الأرثوذكسيّة. إنّ مبدأ المجمعيّة الذي أمّن باستمرار مسيرة الكنيسة الأرثوذكسيّة، هو الوحيد الذي يسمح عند تطبيقه بإيجاد حلّ للخروج من الأزمة الراهنة. أن نجتمع معًا في الروح القدس، باحترام متبادل لبعضنا البعض، لا هدف لاجتماعنا سوى البحث عن حلٍّ مقبول من الكنائس الأرثوذكسيّة كافّة، هو السبيل الوحيد الذي علينا اتّباعه. كلّما تأخّر تطبيق مبدأ المجمعيّة هذا، كلّما ازداد التصدّع الحاليّ خطورة في المسكونة الأرثوذكسيّة. إنّ التكنولوجيا الحديثة تزيد من الهيجان والارتباك والضجيج بين الأرثوذكسيّين، وتقلّل تاليًا من مصداقيّة الكنيسة الأرثوذكسيّة في عالم اليوم.

7- مع إطلالة عيد الميلاد، عيد مجيء ابن اللَّه وكلمته عند الإنسانيّة، عيد تدبير الإله الآب المذهل لمصالحة الجنس البشريّ، نرفع بتواضع ابتهالنا ورجاءنا لكي تُسرّع الخطوات الآيلة إلى المصالحة، حتّى نستحق ضمّ أصواتنا جميعًا في الترتيل، قائلين: «المجد للَّه في الأعالي، وعلى الأرض السلام وللناس المسرّة» (لوقا 2: 14). ونردّد أنّ «كلّ الأشياء هي من اللَّه الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح، وأعطانا خدمة المصالحة» (2 كورنثوس 5: 18).

المبادرة ببدء العلاج الشافي منوطة بالبطريركيّة المسكونيّة، لكنّ كلّ الكنائس المستقلّة وجميع الأرثوذكسيّين بدون استثناء، يتحمّلون مسؤوليّة المساهمة في المصالحة.

ستؤمّن هذه المصالحة السلام لملايين من المؤمنين. وفي الوقت ذاته، ستعطي مجالاً للأرثوذكسيّة لتبيان قدرتها الروحيّة في معالجة الجراح بنور كلمة اللَّه وقوّة الروح القدس. فتؤكّد بذلك أنّها بالحقيقة الكنيسة الواحدة، المقدّسة، الجامعة والرسوليّة، التي رأسها المسيح ابن اللَّه المتجسّد «الذي من أجله يوجد كلّ شيء وبه يوجد كلّ شيء» (عبرانيّين 2: 10)، والذي «أعطانا خدمة المصالحة» (2 كورنثوس 5: ١٨).n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search