2019

3. تعابير ومعانٍ - يا ربّ امنح عقلي فهّمًا - الأب يونس (يونس) – العدد الثامن سنة 2019

يا ربّإ امنح عقلي فهمًا

الأب يونس يونس

 

نسمع في  صلواتنا كلمات أو نقرأ تعابير تبدو عسرة الفهم على المؤمن الذي يأتي إلى الكنيسة للصلاة في مناسبات مختلفة، وخصوصًا في صلوات الغروب والسحر التي تحوي قطعًا عديدة تتعلّق بالزمن الليتورجيّ، أو العيد اليوميّ، ولا تتكرّر في الأيّام الأخرى، لذلك يكون نصّها غير مألوف لدى الشعب المؤمن بعامّة. لا شكّ في أنّ عدم وضوح النصّ سببه أنّ الترجمات التي بين أيدينا قديمة جدًّا، وتستعمل تعابير أو كلمات ما عادت مستعملة بكثرة في اللغة العربيّة، سيّما مع تدني مستوى معرفة هذه اللغة لدى الناس وقلّة القراءة بشكل عامّ. يضاف إلى هذا أنّ ناظمي التسابيح وقطع الصلوات استعملوا بكثرة تعابير كتابيّة وصورًا يصعب فهم معانيها على من لا يقرأ الكتاب المقدّس باستمرار وجدّيّة ويتمعّن بمحتواه.

لذلك نطلق في هذا العدد سلسلة من المقالات تسعى كلّ واحدة منها إلى شرح بعض هذه التعابير، حتّى لا تكون صلواتنا تردادًا لا نفقه معناه. فيا ربّ أنر عقلي لأرفع صلاتي إليك بقلب نقيّ وذهن صافٍ.

نبدأ بالقطعة الأولى من صلاة الغروب الخاصّة بعيد الميلاد:

«هلمّوا لنبتهج بالربّ. مذيعين السرّ الحاضر. فإنّه قد زال سياج الحائط المتوسّط. والحربة اللهيبيّة تنقلب راجعة. والشاروبيم تبيح عود الحياة. أمّا أنا فأعود إلى التمتّع بنعيم الفردوس الذي نُفيت منه قبلًا بسبب المعصية. لأنّ صورة الآب وشخص أزليّته. المستحيل أن يكون متغيّرًا. قد اتّخذ صورة عبد آتيًا من أمّ لم تعرف زواجًا. خلوًّا من استحالة. حيث لبث كما كان. إلهًا حقيقيًّا. واتّخذ ما لم يكن. إذ صار إنسانًا لأجل محبّته للبشر. فلنهتف نحوه صارخين. يا من وُلد من البتول اللهمّ ارحمنا».

تشير هذه القطعة إلى التجسّد الإلهيّ الذي صار بموجبه ابن اللَّه الأزليّ إنسانًا مثلنا، وتعتبر أنّه بنتيجة هذا الحدث الخلاصيّ العجيب «زال سياج الحائط المتوسّط والحربة اللهيبيّة تنقلب راجعة». ما المقصود بـ«سياج الحائط المتوسّط» و«الحربة اللهيبيّة» و«عود الحياة».

سياج الحائط المتوسّط

هو حاجز مكوّن من سياج ودرج كبير يفصل الفناء الخارجيّ عن باقي أقسام الهيكل في أورشليم. فحينما بنى هيرودس الكبير الهيكل، قسمه إلى قسمين: القدس وكان لا يدخله إلّا الكهنة من بني هارون للخدمة، وقدس الأقداس ولم يكن يدخله إلّا رئيس الكهنة وحده مرّة في السنة في يوم الكفّارة، وكان خارج ذلك فناء الكهنة، وفيه مذبح المحرقة والمرحضة. وخارج هذا الفناء كان يوجد فناء آخر يدخل إليه اليهود فقط، ويلي ذلك إلى الخارج فناء النساء. وكان الهيكل بقسميه وهذه الأفنية الثلاثة يرتفع عن سطح الأرض، فكان الخارج من الفناء الأخير ينزل خمس درجات (الحاجز) عبر الأبواب المختلفة، ليجد نفسه في فناء واسع. كان الدخول إلى الفناء الخارجيّ الواسع مسموحًا للجميع يهودًا وأممًا على السواء، أمّا التقدّم أكثر إلى الأفنية الداخليّة فكان محصورًا باليهود، وعُثر العام 1871 على أحد الألواح الرخاميّة التي كانت جزءًا في هذا الحاجز نقش عليه باليونانيّة بحروف منفصلة ما ترجمته:

«ليس مسموحًا لأيّ إنسان من أيّ أمّة أخرى أن يتخطّى السياج المحيط بالهيكل، وكلّ من يضبط لا يلومنّ إلّا نفسه، لأنّ مصيره الموت».

ونعرف من سفر أعمال الرسل أنّ اليهود ثاروا على بولس الرسول وطردوه من الهيكل، وصولًا إلى محاولة قتله عندما اعتقدوا أنّه أدخل تروفيمس الأفسسيّ (وهو من أصل وثنيّ)، إلى الهيكل مجتازًا هذا الحدّ الفاصل (أعمال الرسل 27:21 – 36).

يرمز سياج الحائط المتوسّط إذًا إلى الانفصال بين اليهود والأمم، هو سياج الفصل والعداوة والتفريق.

يذكر بولس الرسول هذا السياج في رسالته إلى أفسس حين يصف، مخاطبًا الأمميّين، كيف أنّه بالمسيح يسوع ما عادوا بعيدين بل صاروا قريبين وأزيلت العداوة وحلّ السلام إذ «نقض حائط السياج المتوسّط، أي العداوة، مبطلًا بجسدهِ ناموس الوصايا في فرائض لكي يخلق الاثنين في نفسهِ انسانًا واحدًا جديدًا صانعًا سلامًا. ويصالح الاثنين في جسدٍ واحدٍ مع اللَّه بالصليب قاتلًا العداوة بهِ» (أفسس 14:2- 16).

الحربة اللهيبيّة

تشير الحربة اللهيبيّة أيضًا إلى حدّ فاصل، وهي تعيدنا إلى سفر التكوين، فبعد سقوط آدم في الفردوس، «أخرجهُ الربّ الإله من جنّة عدن ليعمل الأرض التي أُخِذ منها. فطرد الإنسان وأقام شرق جنّة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلّب لحراسة طريق شجرة الحيوة» (تكوين 23:3-24). سياج الحائط المتوسّط يفصل بين الناس يهودًا وأممًا، بينما الحربة اللهيبيّة فتفصل بين الإنسان واللَّه الساكن في جنّة عدن.

عود الحياة

تعبير «الشيروبيم تبيح عود الحياة» يعود بنا أيضًا إلى طرد آدم من الفردوس، حين أقام اللَّه الشيروبيم، بالإضافة إلى الحربة اللهيبيّة، لحراسة جنّة عدن ومنع الإنسان من الوصول إلى شجرة الحياة، التي ترمز إلى تمرّد الإنسان وسعيه إلى أن يصبح إلهًا بنقض وصايا اللَّه بدلًا من طاعتها (تكوين 5:3). عند السقوط منعت الشيروبيم الإنسان من الوصول إلى شجرة (عود) الحياة، أمّا بالميلاد فأصبح المسيح هو عود الحياة («أنا هو الطريق والحقّ والحياة» يوحنّا ١٤: ٦) وصار الاتّحاد به مباحًا بل مطلوبًا وهو الغاية من مجيء المسيح على الأرض، كما قال القدّيس أثناسيوس الكبير: «تأنّس الإله لكي يتألّه الإنسان».

لدينا في هذه القطعة من صلاة غروب عيد الميلاد، صورة رائعة عن المسيح الذي بتجسّده ألغى الحواجز التي تفصل بين الناس وتلك التي تفصل بين الإنسان وخالقه. هي دعوة إلى المصالحة، مصالحة الإنسان مع اللَّه ومع أخيه الإنسان الآخر، كلّ آخر.

مجيء المسيح يأتي ليوحّد البشريّة فيه.n

 

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search