2019

2. خاطرة - سبيل المحبّة - الأب إيليّا (متري) – العدد الثامن سنة 2019

سبيل المحبّة

الأب إيليا متري

 

          في زمانٍ تكاد معاني الحقّ تضيع فيه، يحثّنا الرسول على تجديد الطاعة بقوله: «والمحبّة هي أن نسلك سبيل وصاياه، وتلك الوصيّة، كما سمعتموها منذ البدء، هي أن تسلكوا سبيل المحبّة» (2يوحنّا 6).

لا يشعرنا يوحنّا الرسول بأنّ الجماعة، التي خصّها بهذه الرسالة، يتخلّلها ضلالٌ في داخلها. وعلى هذا، نراه لا يمنع نفسه من تذكير قرّائه بحقّ وصايا اللَّه الآب، أي تعليمه الحقّ. هل هذا يعني أنّه لم يكن ثمّة مَن يخاصمون الإيمان القويم في مدى مَن يخاطبهم؟ بلى. فدائمًا، كان ثمّة خصوم يزأرون على الرعيّة. كلامه، الذي هدفه تذكير قوم يراهم يحيون أمينين للَّه، لا يخلو من رنّة دفاعيّة. ودفاعه المباشر، الذي يكشف الحقّ ويفضح الباطل، أنّ المسيحيّة كلّها أن نسلك سلوك المحبّة، أي أن نبيّن أنّ اللَّه صادق في الحياة الحقّ، ولا سيّما الحياة الأخويّة، باهتمامنا بكلّ أخ في الجماعة وبما يشتهيه اللَّه له من خير راضٍ.

هذا، في فكر يوحنّا خصوصًا، لا يتعلّق بمؤمن من دون سواه. فرسالته الثانية، التي وجّهها إلى الكنيسة («السيّدة المختارة»)، أرادها شخصيّة، ليحيا كلّ عضو على وعي أنّ دعوته الراهنة أن يتعطّر بالمحبّة دائمًا. وهذه سبيلها أن يقبل الحقّ بحماس ظاهر لا يبخل على الإخوة بأيّ شيء. هل «سمعتموها منذ البدء» تعني أنّكم سمعتم وصيّة الربّ من فمه مباشرةً؟ إذا ذكرنا أنّ الربّ حيٌّ في جماعته، يجب أن نجيب بـ: نعم. وهكذا تكون «سمعتموه» أنّكم لمستموه، في حياة كنيستكم، حيًّا مُطاعًا (هذا هو تقليد الكنيسة القويم). وبهذا المعنى، كلّ جماعة حقيقيّة هي التي تطيع حقّ الربّ الحاضر أبدًا. وبهذا المعنى، كلّ عضو في الجماعة، يتلقّى المحبّة من الربّ وإخوته بآنٍ، هو مسؤول عن أن يمدّها حيثما حلّ أو نزل. الحياة الكنسيّة كلّها تجسّداتُ حبٍّ، كلّها، أجل كلّها. هذا أعلى ما يدلّ على أنّ الربّ قائمٌ «الآن وهنا».

ثمّ يجب أن نلاحظ أنّ عبارة «نسلك» تتكرّر، في هذه الرسالة الموجزة، ثلاث مرّات (مرّتين في آيتنا ومرّةً أخيرةً في الآية الرابعة). وهذا يدلّنا على أنّ الجماعة، التي يخاطبها، تعرف أنّ المسيحيّة سلوك، وتاليًا تسلك بموجب ما تعرفه. هل هذا هو ما يجعل الرسول مطمئنًّا إلى أنّ شرّ المضلِّين لم يخترق هذه الجماعة الصلدة؟ ما من شكّ في ذلك. فالوصيّة ليست كلامًا مجرّدًا، بل سلوك يطلب: أوّلاً أن نحبّ الربّ علنًا، وثانيًا أن نحبّ الإخوة علنًا. «بهاتين الوصيّتين ترتبط الشريعة كلّها والأنبياء» (متّى 22: 40)، أي الوصايا كلّها. و«الثانية مثلها»، أي مثلها تمامًا، أي تجد ذاتها في الأولى، أي كلتاهما وصيّة واحدة.

أشرنا إلى أنّ الرسول يعرف أنّ الكنيسة، التي يخاطبها، أمينة في حفظ الوصايا (الآية الـ4). هذا، طبعًا، يدلّ على أنّ علاقته بالمؤمنين فيها لم تنقطع يومًا. ولكنّ اللافت، في ما قاله لهم، أنّ ما يعرفه فيهم لا يطلب منهم سواه، أي لا يضيف إلى «وصيّة المحبّة» شيئًا. هل هذا يعني أنّ المحبّة، عنده، هي كلّ ما خرج من فم الربّ؟ لا يمكن أن يعني كلامه سوى هذا! فالحياة الكنسيّة، أي حياة الإخوة في الجماعة الكنسيّة، لا يعوزها سوى مَن يبقى يبيّن، بوعي ظاهر، أنّ المسيحيّة ليست حكيًا، بل حياة. وخير ما يؤكّد ذلك أنّ يوحنّا نفسه، فيما تكلّم على وصايا، أردف، توًّا، الوصيّة. كلّ وصيّة، طلبها اللَّه الآب، تلقى ذاتها في وصيّة المحبّة. المحبّة المحبّة هي جديد اللَّه الدائم، هذه التي سمّاها رسول آخر: «تمام الشريعة» (رومية 13: 8). لِمَ هي الوصيّة؟ أو: لِمَ هي تمام الشريعة؟ لسبب وحيد: أنّ اللَّه محبّة يستدعي أن نتمثّل به. كلّ المسيحيّة، أي كلّها على الإطلاق، أن نأتي من اللَّه في كلّ شيء. هل أراد يوحنّا أن يلغي كلّ وصيّة أخرى؟ لا! لكنّه ألغى كلّ علاقة باللَّه تقوم على أنقاض العلاقة المسؤولة بجماعة الإخوة. اعتبر هنا أيضًا: «إذا قال أحد: «إنّني أحبّ اللَّه» / وهو يبغض أخاه / كان كاذبًا / لأنّ الذي لا يحبّ أخاه وهو يراه / لا يستطيع أن يحبّ اللَّه وهو لا يراه» (1يوحنّا 4: 20). ليست الحياة في المسيح أن نقيم علاقةً باللَّه (نصلّي ونصوم ونقرأ كلمته...) فحسب، بل، أيضًا (أو في فكر يوحنّا: أوّلاً) أن نقيم علاقةً به فيما نحبّ إخوتنا (ونحبّه فيهم)! إذًا، أن «نسلك سبيل وصاياه» هو أن «نسلك سبيل المحبّة»، أي محبّة إخوتنا. هذا يعني أنّنا نحفظ وصيّة اللَّه الآب.

إذًا، ليس من وصايا، بل وصيّة، أي ليس من حقيقة، في هذا الوجود، إلاّ تلك التي كشفها اللَّه في ابنه. هذا الذي «سمعناه منذ البدء». أيّ بدء؟ بدء اللَّه الذي كُشف في المسيح. سوى هذا هو ضلال، أي إنكار أنّ الربّ قد «جاء في الجسد» (الآية الـ7). هذا يعطينا أن نزداد بيانًا أنّ التعبير البليغ، في فكر يوحنّا، عن الإيمان بتجسّد الكلمة، هو أن نحبّ بعضنا بعضًا. وحسبي أنّه لم يرد أن يشير، فقط، إلى تجسّد الربّ الذي حدث في الماضي (من مريم)، بل إلى فعل تجسّده الدائم، أي الآن وكلّ آن. أراد أن يقول إنّ مَن يحبّ الإخوة يجعل الربّ، الذي أتى من مريم، يتصوَّر الآن. وهكذا تكون «منذ البدء» لا تتعلّق بحدث تمّ في الماضي فقط، بل ببدء دائم أيضًا. قال لهم: «في العالم مضلّون كثيرون» (لا يشهدون لتجسّد الكلمة). حسنًا، هؤلاء كيف ندحض ضلالهم؟ جوابه: بأن نحبّ. لا يقول لهم: لا تحفظوا العقيدة، بل: بيّنوها في كلامكم ومحبّتكم. هذا، الذي حَفَظكم، يدفع عنكم كلّ هرطقة دائمًا، ويسهم في حفظ كنيستكم، أبدًا، نقيّةً بلا أيّ عيب.

إلى الآن، لم يستطع أحد أن يعرف الجماعة التي خاطبها يوحنّا في هذه الرسالة (قيل: من كنائس آسية. أيّ كنيسة؟ لا أحد يعرف). أمّا نحن، فنعرف أنّ هذه الرسالة كُتبت لنا أيضًا، لنسلك سبيل المحبّة!n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search