حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة
في رؤية المطران جورج (خضر)
غسّان الحاج عبيد
الكتابة مسؤوليّة. وتعظم المسؤوليّة متى كان عليك أن تكتب في موضوع بالغ الدقّة كالذي نحن في صدده، وأن توجز حيث الإيجاز صعب. فلا حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، ولا المطران جورج (خضر)، وكلاهما يستدعي ذكره ذكر الآخر، من المواضيع التي يهون عليك إيجاز الكلام فيها من دون أن تخشى الإجحاف. وبعد.
رَبيَ الفتى جورج خضر في حارة النصارى بطرابلس، في كنف والدين أرثوذكسيّين تقيّين نشّآه على استقامة الرأي وحسن العبادة ولقّحاه (إذا جاز التعبير) بما سيكتشفه بالغًا، يومًا ما، وهو أنّ الأرثوذكسيّة عمود الحقّ وأنّها، بسبب من هذا، شيء عظيم. ولعلّ قيام بيته الأبويّ، ومعه «المدرسة الطائفيّة» التي أُلحق بها طفلاً (أُدخل إليها وهو، بعد، في الخامسة من عمره(١))، بجوار الكنيسة، جعله يوقّع حياته اليوميّة على إيقاع الكنيسة، أصوامًا وصلوات، ما شكّل له فرصة ثمينة لتذوّق حلاوة الكنيسة من حلاوة مسيحها. على هذا الذوق ربي جورج خضر، وعليه نشأ، فأحبّ يسوع وكنيسته، وأخذ هذا الحبّ ينمو معه على إيقاع نموّه جسدًا ونفسًا وعقلاً، يجتاحه اجتياحًا (إذا ساغ التعبير) حتّى، إذا ما كبُر صار هذا الحبّ من نسيجه واقترن عنده، هذه المرّة، بالوعي الذي ينشأ من النضج العقليّ والنضج الإدراكيّ. وشيئًا فشيئًا قاده وعيه إلى أن يتحسّس، بمرارة بالغة، التردّي الذي كانت كنيسته الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة قد آلت إليه آنذاك، وكان قد شمل النواحي الكنسيّة كافّة.
أحزنه، آنئذ، المشهد الأرثوذكسيّ الأنطاكيّ حتّى الانجراح. ولعلّ ما ضاعف حزنه وأمعن في جرحه تعميقًا «أن أساتذته (في المدرسة الكاثوليكيّة التي انتقل إليها لاحقًا) كانوا يلحّون على أنّ الشرق لم ينتج أبرارًا بعد انفصاله عن البابويّة... وعلى أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة هي وحدها كنيسة المسيح الواحدة، المقدّسة، الجامعة، الرسوليّة، وأنّ هذه الصفات الكنسيّة منحصرة بها(٢). مرمره كثيرًا الموقف الكاثوليكيّ الجائر من كنيسته الأرثوذكسيّة، نظرًا إلى ما ينطوي عليه من غبن، بل من نظرة دونيّة إلى كنيسة تكتنز في خزفيّتها الكنوز الثمينة العظيمة، و«لا تختلف، جوهريًّا، عن تلك التي يصفها العهد الجديد...»(٣). فقد «بدا (له) في يوم من أجمل أيّام عمره، أنّ الكنيسة التي ولد فيها هي، عينًا، تلك التي لا تأسرها فذلكة اللفظة، ولا يجمّدها قانون، ولا تغرّها الأنظومة العقليّة المحكمة التركيب، ولكنّها الكنيسة التي لها من رؤيتها الموحِّدة أشياء الوجود جميعًا، نفاذ إلى ما يحيط بنا جميعًا من كشف وكائنات حيّة وجامدة، وتنتقل الرؤية إلى حيّز التعبير بالعبادة والعيد...»(٤). وكمن ينتفض لكرامة له مهدورة انتفض الفتى، لكأنّ صوتًا سرّيًّا قدسيًّا انبعث من وجدانه الجريح يقول له: تحرّك، لا تبق ساكنًا، لا تستسلم، تحرّك الآن، «فهوذا الآن وقت مقبول». تحرّك فلكنيستك الجريحة حقّ عليك، وها هي تستصرخك. انتفص الفتى لكنيسة عنت له هويّته وشرفه وكرامته، كما عنت له ملح الوجود، بل الوجود كلّه. ومنذ ذلك الحين شرع يفكّر بمبادراة تكون هي بدء العمل، بدء النهضة، تعيد الحقّ إلى نصابه، تستعيده لأهله، تستردّ لأنطاكيّة الأرثوذكسيّة كرامتها المهدورة، تنتشلها من زوايا الإهمال نافضة عنها غباره، وتزفّها إلى عريسها «كنيسة مجيدة، لا دنس فيها ولا غضن ولا شيء مثل ذلك، بل تكون مقدّسة بلا عيب» (أفسس 5: 27)، فكانت فكرة تأسيس حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. وكما يتصوّر الجنين في رحم أمّه أخذت هذه الحركة تتصوّر في فكر الفتى ووجدانه حتّى، إذا ما «حان ملء الزمان»، ولدت هذه الحركة من رحم فكره في السادس عشر من آذار 1942، وكان على ولادتها شهود. أمّا كيف تصوّرت هذه الحركة في فكر الفتى وكيف ولدت فسؤالان لا يستطيع أحد (أكاد أقول حتّى ولا جورج خضر نفسه) أن يجيب عنهما، إذ «هناك فهم للحركة لا يتمّ إلاّ كما يتمّ إدراك السرّ»(٥).
حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، في فكر جورج خضر، وليدة رؤيتين، تنبعث ثانيتهما من الأولى على غرار انبعاث النور من رحم الظلمة، على غرار انفجار نور القيامة من رحم ظلمة القبر. أجل، الحركة، في فكر جورج خضر، وليدة رؤية مزدوجة، أي رؤيته كنيسته الأنطاكيّة في واقعها وفي مرتجياتها: في واقعها الانحطاطيّ، المتردّي، إذ «كان الشقاء يخيّم عليها آنذاك، نحسّها مرميّة في صحراء وناسها دون التراث العظيم الذي للشرق المسيحيّ»(٦). ثمّ في مرتجياتها، أي خالعة عنها نير الانحطاط ونافضة عنها غبار الجهل والعتاقة، وناهضة بقدرة من ينهضها؛ فقد «حسبنا أنّ المجموعة البشريّة، الساقطة بسبب من جهلها، قادرة على أن ترتفع إلى مستوى الكلمة وأن تصير، إذذاك، الكنيسة»(٧). لقد أراد جورج خضر الحركة حركة لكلّ ما يعنيه هذا المصطلح من كسر للجمود وبعث للحياة في كنيسة يُتوقّع منها ولها أن تكون حاملة الخلاص الذي بيسوع المسيح، لينتقل هذا الخلاص، بالروح القدس، من شرايينها إلى شرايين العالم، فيحيا العالم له؛ «فقد تبيّن لنا ... أنّ جسد المسيح ودمه هما الحياة ودوامها»(٨).
إنّ من يتتبّع ما قاله جورج خضر في الحركة، كتابة وشفاهة، على مدى عقود (وهو كلام تأسيسيّ غزير ينسجه خضر على نول مبادئ ستّة- هي مبادئ الحركة، يتوسّع فيها شرحًا وتدقيقًا، ويتّخذها منطلقًا لتأمّلات وجوديّة تشكّل مطلاّت نورانيّة مشرعة نوافذها على رؤى جديدة)، يخلص إلى أنّها (أي الحركة)، في فكره ورؤيته، إنّما هي حركة الكنيسة في نهضتها وفي «تشوّفها إلى الآتي»(٩)، وأنّ قراءتها تصحّ تحت عناوين عدّة نكتفي منها، في هذه العجالة، بالتالي:
1- إنّها حركة الكنيسة في وعيها ذاتها راعية لشعبها، تواكبه في ظروفه الوضعيّة على اختلافها، وترعاه فيها جميعًا. تواكبه في هواجسه وتطلّعاته، في آلامه وآماله، في أفراحه لتضاعفها، وفي أحزانه لتخفّف عنه ثقل الشعور بها. معه إذا سقط لتنهضه، ومعه إذا نهض لتدفع به إلى نهضات متتالية. معه في إيقاعاته النفسيّة على اختلافها، في تنافرها وتآلفها. معه في هذه جميعًا لتحمل له بشرى الخلاص الحاصل، مرّة وإلى الأبد، بيسوع المسيح، ولتنقل إليه تعزيات الروح القدس ومعها الرجاء الذي لا يُخزي.
بيد أنّ هذه الرعاية تفترض وجود الكاهن المؤهّل لها علمًا ومعرفة وحسًّا رعائيًّا وطاقة حبّ. هذا أدركته حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة جيّدًا، لذلك شكّل «الكاهن الأرثوذكسيّ» (من هو؟ ما دوره؟ وكيف يتمّ إعداده؟...) فصلاً محوريًّا في كتاب «أنطاكية الجديدة» للأرشمنديت جورج خضر (المطران حاليًّا)، الصادر عن منشورات النور العام 1969 والذي يضمّنه الكاتب رؤيته الشاملة لأنطاكية الجديدة، مقرونة بما يمكن اعتباره الخطّة النهضويّة الواجب اعتمادها للبلوغ إلى هذه الـ«أنطاكية»(١٠).
2- إنّها حركة الكنيسة في وعيها ذاتها شاهدة لمسيحها، في هذا العصر، لإنسان هذا العصر. «فالإنسان المعاصر يؤمن بالعلم، ويؤمن بالعقل، ويؤمن بالتطوّر. وهذه كلّها يمكن ويجب أن ينشأ بينها وبين الكنيسة حوار... وإذا كان الإنجيل لكلّ عصر، وهو كذلك لأنّه كلمة اللَّه الأبديّة، فإنّه موجّه إلى الإنسان الذي نعايش والذي أصبحت قوالبه الفكريّة غير قوالب الناس الذين كُتب الإنجيل في أيّامهم... إنّ اللاهوت المسيحيّ الشرقيّ فيه من الخصب والارتفاع، ولا سيّما في نظرته إلى اللَّه، ما يجعله قريبًا من الإنسان الحديث...»(١١).
وبالفعل، فقد اشتغلت الحركة كثيرًا على هذا الجانب، جانب التوجّه إلى الإنسان المعاصر والانفتاح عليه حيث هو، في موقعه. إنّ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة لا تسعى إلى قولبة الإنسان المعاصر، لكنّها تتّخذه كما هو، بمكوّناته الفكريّة والثقافيّة والإيديولوجيّة وغيرها، وتحاوره انطلاقًا من هذه المكوّنات، ساعية إلى مخاطبته بكلمة الإنجيل وإلى أن تكشف له، من الإنجيل، وجه المسيح الكونيّ، كما رآه المطران جورج خضر، أي هذا المسيح الذي، بامتداده الخلاصيّ في الكون، ليس حكرًا على الذين انتسبوا إليه وتسمّوا باسمه، لكنّه يعانق الجميع بالحبّ، وقد ترك على جبين كلّ إنسان، أيًّا كان، من خاتم محبّته خواتم.
هذا، وقد برز، على هذا الصعيد، في صفوف الحركة، مفكّرون كثر أغنوا المكتبة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة بنتاج فكريّ لاهوتيّ غزير، نذكر في مقدّمتهم الدكتور كوستي بندلي. لقد تشبّع هذا الكبير من الكتاب المقدّس وآمن بأنّ الإنجيل يجب أن يكون إنجيلاً على دروب العصر، ينير هذه الدروب ويهدي السالكين فيها إلى مناهج الخلاص الحاصل بيسوع المسيح المصلوب والقائم من بين الأموات، أو، أقلّه، يكشف لهم وجهًا ليسوع المسيح يجهلونه، ولكونهم يجهلونه يناصبونه العداء (على خلفيّة أنّ الإنسان عدوّ ما يجهل أو مَن) أو، في أفضل الأحوال لا يكترثون له. وإنّي لأجسر، هنا، استطرادًا، على الزعم أنّ كثيرين من الذين يجحدون يسوع إنّما يجحدون مسيحًا يجهلونه، مسيحًا لم يعرفوه على حقيقته، إمّا لأنّهم لم يتواصلوا يومّا مع مسيح الإنجيل، أو لأنّ تواصلهم كان سطحيًّا وعابرًا، أو لأّنهم قرأوا المسيح في وجوه شوّهت صورته أو في عقول وأفكار أساءت إليه إيّما إساءة. هذا، وكما قال المطران جورج خضر «بالمسيح النائم في الأديان»، كذلك قال كوستي بندلي بالمسيح الحاضر سرّيًّا mystiquement، إذا جاز التعبير، في الفكر المعاصر. وبما يشبه التبتّل كرّس حياته وعقله للتواصل مع هذا الفكر ومحاورته بغية أن يكشف له حضور المسيح، سرّيًّا، فيه وأن يعمّده بفكر المسيح. وهكذا ترك لنا هذا المعلّم إرثًا غنيًّا جدًّا مازال، وسيبقى، مرجعًا لكلّ باحث في علاقة الكنيسة بالفكر المعاصر، أو في شهادتها للإنسان المعاصر. نذكر من هذا الإرث، على سبيل المثال، «السبل إلى اللَّه»، «إله الإلحاد المعاصر»، «اللَّه والتطوّر»، «الجنس ومعناه الإنسانيّ»، «إسرائيل بين الدعوة والرفض»، «اللَّه والشرّ والمصير».
3- إنّها حركة الكنيسة في وعيها ذاتها شاهدة لمسيحها في محيطها العربيّ. «فالمسيحيّة التي صمتت كثيرًا بسبب الرزوح آن لها أن تتكلّم الآن على نهضة بلسان عربيّ فصيح تشرح به نفسها، وتجعل بين الناس رسالة المسيح تنطق بالعربيّة...»(١٢). وإنّما هذا على رجاء أن يفهم المسيحيّون العرب أنّهم في هذه الديار أصلاء وليسوا طارئين، وأنّ لهم فيها، تاليًا، حضورًا شاهدًا، وأنّهم، على غرار سيّدهم، مرميّون في مصيرها. فما زالت، إلى اليوم، ماثلة، أمام أعين الذين استبقاهم ربّهم أحياء من قرّاء ملحق «النهار» في سبعينيّات القرن الماضي، تلك القولة الشهيرة التي فاه بها المطران جورج (خضر)، وكانت قضيّة فلسطين ما تزال محتفظة ببكريّتها ومركزيّتها قبل أن تصادرها السياسات الإقليميّة والدوليّة، والتي زيّن بها، آنذاك، واحدًا من أعداد الملحق، قال ما حرفيّته: «أنا مرميّ في المصير العربيّ لكون سيّدي مرميًّا فيه»، فأسقط بهذه المقولة معادلة قائمة في أذهان عربيّة كثيرة وتقول بالتماهي بين المسيحيّة والغرب، وتحمّل المسيح أوزار الأخطاء - الخطايا التي ارتكبها الغرب هنا وثمّة.
4- إنّها حركة الكنيسة الأنطاكيّة في وعيها ذاتها وادّة أخواتها في العالم الأرثوذكسيّ، وشريكًا أساسيًّا في صياغة شهادة أرثوذكسيّة جامعة، تمتاز بمسكونيّتها ورسالتها الإنسانيّة. فما هو معلوم وموثّق أنّ أنطاكية هي مساهم رئيس في إطلاق الحركة المسكونيّة الأرثوذكسيّة، لا سيّما عبر «رابطة حركات الشبيبة الأرثوذكسيّة في العالم» (سيندسموس)، التي حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة عضو مؤسّس فيها. ولعلّ هذا الانفتاح المسكونيّ الذي أبدته كنيستنا الأنطاكيّة على العالم الأرثوذكسيّ - وما زالت - والرحابة الأخويّة التي تميّزت بها تاريخيًّا - وما زالت أيضًا - مع ما ينتج من هذين الانفتاح والرحابة من مرونة لا مساومة فيها في معالجة المسائل الكنسيّة- الخلافيّة وغيرها- ومن قدرة على جمع المتفرّقات إلى اتّحاد واحد، لعلّ هذه كلّها هي التي جعلت أنطاكية تكون دومًا، عبر تاريخها قديمًا وحديثًا، عامل تأليف وتوفيق بين الكنائس الأرثوذكسيّة كلّها، وعروة وثقى توحّدها في المحبّة - كما هي موحّدة في الإيمان - وتشدّ إحداها إلى الأخرى برباط السلام، متمّمة، بذا، وصيّة بولس الرسول إلى أهل أفسس: «...محتملين بعضكم بعضًا في المحبّة، مجتهدين في أن تحفظوا وحدانيّة الروح برباط السلام...» (أفسس 4: ٢ و3).
5- إنّها حركة الكنيسة الأرثوذكسيّة في وعيها ذاتها وادّة جميع المسيحيّين في حوار المحبّة. وقد يثمر الحوار اتّفاقًا في العقيدة في أوان رضاء يحدّده اللَّه الذي له وحده، بحكمته ومعرفته، أن يعرف «الأوقات والأزمنة وقد جعلها في ذات سلطانه» (أعمال 1: 7)، فنشكر اللَّه. وقد لا يثمر فنبقى على المحبّة ونشكر اللَّه. لعلّنا في هذا المسعى الحواريّ، وهو واحد من مبادئ الحركة الستّة الأساسيّة، «نقتنع بأنّ نطاق القداسة يتعدّى الانفصال، وأنّ اللَّه يسكن في القلوب كما يحلو له، ونؤمن بأنّ الربّ يعطي نفَسَه الإنسانَ... كائنة ما كانت انتماءاته العقديّة... (من غير أن يعني هذا) أنّ العقيدة نسبيّة وأنّ الكنائس متساوية في حقيقتها، ولكن... أنّ اللَّه لا يشترط استقامة الرأي عل نفس ليحلّ فيها...»(13).
وتبقى، إلى هذه العناوين، كما أسلفنا، عناوين أخرى لا تتّسع لها هذه العجالة. لذا، ولكي أختم، أودّ أن أسجّل النقطتين التاليتين:
الأولى: إنّ الكلام في رؤية المطران جورج خضر للحركة لا يكفي وحده. يصير كافيًا إذا اقترن بتعهّد منّا أن نتبنّى نحن هذه الرؤية لتصبح رؤيتنا جميعًا. وفي هذا السياق يجب الاعتراف بفضل جورج خضر علينا جميعًا، على الأجيال الحركيّة بتعاقبها. فضله يكمن في أنّه قادنا جميعًا إلى ذاك الذي وجد نفسه، في أوان افتقاد، مقودًا إليه بدافع الشوق والإيمان. يكمن فضله في أنّه لم يحتكر الكشف لنفسه ولم يستأثر به، لكنّه أشركنا فيه إذ قادنا إلى يسوع المسيح معشوقه الأوحد. قادنا إليه وعلّمنا أن نحبّه وكيف نحبّه. وليس هذا فقط، بل وعلّمنا أن نؤمن به ربًّا ومخلّصًا ومعلّمًا أوحد نمحّص بكلمته كلّ شيء، كلّ فكر وكلّ قول، ونقرأ بفكره الوجود كلّه. وعندي أنّ هذه القراءة لا تتيسّر لنا ما لم نكن، نحن أيضًا، على الرحابة والسعة اللتين كان هو عليهما. إنّ هاتين الرحابة والسعة اللتين امتلكهما الرجل هما اللتان، برأيي، يسّرتا الإشراق على مسائل الوجود ومقاربتها في العمق بغية التأمّل في قصد اللَّه منها وحكمته فيها. إلى هاتين الرحابة الفكريّة والسعة العقليّة أعتقد أنّنا مدعوّون اليوم من أجل أن تستقيم شهادتنا ليسوع المسيح، أي ليبرز المسيح، بالفعل، مخلّصًا للعالم، كما هو العالم، بمكوّناته، بما فيه من ثقافة وفكر وفنّ وخلق وإبداع، ينبغي لنا أن نفتّش عن بصمات يسوع في هذه كلّها، وعن قصده الإلهيّ منها؛ ولا يتمّ لنا هذا إلاّ برحابة فكريّة نسعى، على غرار جورج خضر، إلى امتلاكها. لذا كان علينا، برأيي، ألاّ ندع العمل الأُسريّ، على أهمّيّته الكبيرة، يصرفنا عن هذا المسعى. وإنّما هذا لأنّنا نريد أجيالاً حركيّة قادمة محصّنة بالتقوى والإيمان، أساسًا وقبل كلّ شيء، ولكن، أيضًا، غنيّة بالثقافة والعلم والمعرفة. من ليست له أدوات العالم لا يستطيع أن يشهد ليسوع فيه وأن ينقل له بشرى الخلاص الحاصل بيسوع. والعالم هذه أدواته.
الثانية: إنّ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة هي عمل الروح القدس في أنطاكية. وبفعل هذا الروح كانت، سحابة هذا الزمن الطيّب، وما تزال، كما أرادها جورج خضر أن تكون، أي نموذج الوحدة الأنطاكيّة، هذه الوحدة التي علينا أن نصونها وأن نجتهد لنزيدها رسوخًا. وما كانت الحركة لتكون هذا النموذج الوحدويّ الأنطاكيّ لولا أنّها عابرة للأبرشيّات في المدى الأنطاكيّ وعابرة للرعايا في الأبرشيّة الواحدة. وعندي أنّ هذا البعد الأنطاكيّ الذي للحركة مهمّ جدًّا وأساس لأنّه سمة لها فريدة تبرز حجمها التيّاريّ وهويّتها النهضويّة. ولعلّ هذا ما جعلها تشكّل، في تاريخ أنطاكية الحديث، علامته الفارقة، بحيث يعسر على كلّ راغب في دراسة هذا التاريخ أن يدرسه ما لم يلجه من البوّابة الحركيّة، اي ما لم يرجع إلى أدبيّات الحركة التي تزخر بها مجلّتها «النور» وكذلك منشوراتها «منشورات النور» التي، لسنوات خلت، باتت تصدرها تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة للنشر والتوزيع، ومعها جميعًا إلى ما حفظته الذاكرة الحركيّة من تراث حركيّ شفويّ غنيّ- شبه تقليد- منقول عبر الأجيال.n