يسوع مرآة الحنين
قراءة في ديوان كلمات للضياع، حبيبة المنفى
للشاعر خريستو المرّ
د. جورج معلولي
نجوم جريحة/ تهاجر داخل داخلي/ تكوكب أوجاعها بي قصائد/ وتأمل»، كأنّ القصائد تكتب نفسها بنفسها في هذا الديوان أو تولد من الجراح إن لامسها ضوء الحبّ. هل تغدو الجراح نافذة من نور إن قالتها النفس صورًا في كلمات؟ قسوة الجراح وجفاء المنفى يدفعان الإنسان المكلوم إلى التفتيش عن جنّة ضائعة أو سماء. في هذا الارتجاف يعود المجروح الى نفسه فيقول كما الشاعر: «أفتّش خاصرتي عن سماء ضائعة» فإن وُجد فيها دليلان، أو دليل في وجهين، الحبّ واللَّه، يكتشف أنّ «الجراح نجوم/ عميقة/ عميقة» تعانق داخله و أعمق.
يقول جلال الدين الروميّ في إحدى قصائده: «دخلت قلبي لأرى كيف هو. شيء ما هناك جعلني أسمع كلّ العالم يبكي». بكاء الحنين إلى الموطن الأوّل كحنين الناي النائحة إلى حقل القصب الذي أخذت منه. غير أن ّالكلمات في ديوان خريستو المرّ تأتي من الضياع حكايات مهداة إلى الأبرياء وكلّ المحبين وإلى اللَّه المصلوب في الأبرياء وكلّ المحبّين في كلّ منفى. يكتبها أو يكتب عنهم أريجًا ليشفى قلبه و«يشفى من الغصّة/ الآخرون». هنا أيضًا الرجوع من بابل- المنفى هو المبتغى، له ولهم. فلا أحد «حرّ إن قمع الآخرين... لا أحد حرّ إن صلب الآخرين». بعد هذا الألم لا يبقى إلاّ الرحيل القائل بقلم الشاعر: «إني أنزف نجومًا وراء نجوم/ تضيق تفاصيل حزن قديم/ وينكمش المستحيل/ سنرحل .../ كلانا شراع كوعد الحكايات.../ سنرحل/ جرحًا/ أو اثنين/ علّ السماء تدلّي جدائلها». الحبيبة المسحورة مسجونة في برج ما أو هي السماء تتّخذ وجه الحبيبة طريقًا إلى الكنز الدفين أو هي توأم مرافق للشاعر الهائم.
الآلام عديدة وقديمة تقول للطفل: «أترك جناحك خارجًا واكتب هنا: أفكارنا صفرٌ، مشاعرنا صفرٌ». تباغته فتخنق كلماته وتجرّعه السمّ قسرًا سارقة منه كلّ قدرة على قول «لا». تقصّ له أجنحته. فإن صنع له أجنحة من شمع ليطير تحرقه نيران الظلم والحروب والأحقاد فيسقط كما سقط إيكار. في هذا الاختناق يقول بجهد: «أدور/ على الكلمات / فلا تتفوّه طريقًا». الألم الكبير صامت. يمكن للصمت أن يكون موتًا ويمكن أن يكون مخاضًا عسيرًا لتولد الكلمات، حتّى تتعلّم من جديد أن تقول «لا». في مياه الطوفان الطاغية يغدو الغريب أو الطفل أو المهجّر مثل نوح ولكن من غير أمل: «بعثت الغراب يحلّق فوق الماء/ فأنهكه الحزن واكتأب/ فهوى/ بعثت الحمامة/ فعادت ومن خيبة في مخالبها/ يتدلّى الصدى». تتماهى الطيور و العصافير في لغة الشعر والأحلام والأساطير مع الأفكار أو تبدو صورة عنها وعن قوى النفس. هي أيضًا هنا مقصوصة الأجنحة فلا تطير إلاّ مثقلة بالحزن والخيبات فتهوي كملائكة فقدت كلّ حيويّتها بعد أن «عاندتها ذئاب السماء». «الحرب صارت دوارًا.../ وموتًا يأكل الشرفات» فغادر الكلّ: «الناس والحجر/ الحبّ و القمر». هل الطفل «شيء صغير/ قليل بدا من جسد»؟
كطفل خائف يعود إلى أمّه، يعود المتألّم إلى الرحم. يفتّش فيه عن حنان يروي وعن رحمة تستر من قسوة الزمن. فالأمّ، وإن «لم تأت أعجوبة»، تحضّر لولدها «أغنيات المساء / مكان ارتياح». اللطف يُفتقد في أزمنة القسوة فتفتر محبّة كثيرين وينادي الشاعر: «ها أنا في مكان أنادي يدي/ أو أخي/ أو يسوعك/ أو أي شيء لطيف». تصبح الأمّ أو صورها هي الملجأ: «أمّي حمتني/ وغاصت/ ومن خوفها فتّشت صدرها / بحثت عن هواء/ لتعطيني/ وعن آلهات / لتحميني.../ فأغمضت عينيّ كي أنتهي في يديها / وراء جفون الأبد». قد تكون الأمّ والأرض والحبيبة ومياه البحر مرادفات للجّة النفس العميقة التي يغطس فيها الوعي، بعد أن قاسى كثيرًا، ليجد فيها قوّة جديدة أو مشاعر جديدة أو كلمات جديدة، ليولد من جديد. وتصبح موسيقى الطبيعة، كما أنشودة «الأمطار فوق الحصى»، بوصلة تدلّ الرغبة الدفينة إلى قطبها المشتهى بالحقيقة.
في هذه المسيرة لا بد من مرآة. يعوز الإنسان انعكاس ما ليفهم أو ليحاول أن يفهم بعد أن عطّلت المعاناة كلّ فهم. ويعوزه من يرافقه في الأتون أو في البئر التي رماها فيها إخوته البشر أو الظروف. في قلب الأتون وجه يشبه الإنسان والإنسان المنسكب على مذبح أوجاع البشر أيقونة للَّه: “وإنّي أشابه وجهي/ أمام جراح الغريب/ كما اللَّه يشبه ذاته/ فوق الصليب»... «وإذا نظرت ضلوعي/ رأيت جراحًا كمرآة / ووجه يسوع يضيء عليّ». «إلهي حديقة حبّ»، وكلّما تكثّف الحبّ عظم الألم كما يقول القدّيس سلوان. فالحبّ «مصباح نور/ تضيئه طعنة/ في عروق السماء». وبه يقول الشاعر: «نصبت جراحي أمام العرش/ وأشعلت نار انكساري/ وكان جمالكَ مرآتي/ فصرت أنا لك مرآة». المحبّة الكبيرة صليب يأتي به الفرح لكلّ العالم. الحجّ دائم من مدينة الأنا إلى مدينة الأنت. لا مفرّ. لذلك لا مقرّ. تتّخذ الغربة هنا نكهة صوفيّة، تصاعديّة، شكل امتداد دائم إلى الأمام. «اللَّه عشقك لا مقرّ» ففي اللَّه تقفز أيائل النفس من مجد إلى مجد وتهمس له: «تتبّعت حبّي، دعاني إليك». وفي هذه الدعوة تجد النفس ذاتها فتقول، ليس من دون دهش: «تتبّعت حبّي/ دعاني إليّ».
وقد يكون عشق الحبيبين مكان تجلّ للحبيبين وتذوّقًا لمحبّة اللَّه: «معًا نتسلّق المعنى/ منفى إثر منفى/ لا ينام لنا اشتهاء/ ولا وجع لنا يفنى». فشمس الفضاء تغيب ولكنّ شمس القلوب لا تغيب حسب قول الحلاّج. تتكاثر التوائم في مسيرة الباحث عن المعنى في انعكاس مرآة الحبيب ومرآة النفس ومرآة اللَّه في الآخر: فالجرح جرحان، والنهر ضفّتان، والنجم نجمان: «نجم يهجر الجسم/ ونجم شارقًا يبقى». «هذي الأرض يسكنها نزيف/ لنولد نجمتي حبّ وأجمل/ فحقًّا حبّنا معنى للامعنى». وكما في نشيد الأناشيد «يجتاح سرّ اللَّه» بشرة الحبيبين وتعود إلى طيور النفس قدرة التحليق : «كم أحب حمام السلام / الذي يتفتح نافذة نافذة / في جداري .../ ويشعل في حبّنا حبًّا / أو هو يشعل فينا / إله الصباح». يتمّ للنفس عرس سرّيّ كحبّة الحنطة في بطن الأرض وتنبت الأزاهير حول القبر الفارغ.
بعد خبرة الجرح وخبرة الحبّ أو فيهما، يأتي اللَّهُ النفسَ فصحًا سرّيًّا: «جاءني اللَّه عميقًا»، يقول المتألّم والحبيب، وتنبت «حقول الورد في الوريد». فاللَّه أقرب إلينا من حبل الوريد. وتظلّل غمامته مخاض البشر الأبرياء، المحبّين ليولد هو نفسه فيهم. فهو إله يختبئ وإله يتجلّى. إله مصلوب على الحبّ وإله قائم. وقد يكون شعر الشاعر «شهرزاد الصباح» الذي لا ينسى البداءة ولا ينهي الحكاية.n