قراءة كتابيّة في وجه المسيح
بين المدينة وبرّيّة الربّ
نقولا أبو مراد
«فبدّدهم الربّ من هناك على كلّ وجه الأرض، فكفّوا عن بنيان المدينة، لذلك دعي اسمها بابل، لأنّ الربّ هناك بلبل لسان كلّ الأرض»
(تكوين 11: 9)
يسقط الملك، وعبره كلّ تاريخ الشعوب على امتداد الحضارات التي كتبت مجدها في ملاحم حروبها والقتل والاستعلاء، في وجه لامك المشوّه، وفي يديه الملطّختين بدم الناس. يلفتنا أنّه وقد قتل، يأمر امرأتيه بطاعته مخاطبًا إيّاهما كما سوف نعهد اللَّه نفسه مخاطبًا البشر في الأنبياء لاحقًا وفي المزامير: «يا عادة وصلّة اصغيا إلى صوتي ]أطيعاني[، يا امرأتي لامك أنصتا إلى كلماتي» (تكوين 4: 23). جعل نفسه إلهًا. وكأنّي به اعتبر أنّ القتل يجعله كبيرًا عظيمًا، فغيّب الربّ تغييبًا كلّيًّا، محقّقًا في ذاته ما صبا إليه آدم حين أراد أن يكون له الفصل بين الخير والشرّ، أي أن يكون كلامه هو أوّل الكلام وآخره. ما كان للامك هذا. أنهى الكاتب قصّته في اللحظة التي أراد هو أن تبدأ فيها. ينتهي قايين ونسله. ويحلّ الربّ الإله محلّ هابيل ابنًا آخر لآدم. وبنهاية قايين تنتهي أيضًا قصّة المدينة التي بناها. فكما أنّ الكاتب قدّم الملكيّة مشوّهةً في اسم لامك وفعله وكلامه الفارغ، سبق أيضًا وقدّم المدينة بكونها بنيت على يد قاتل أخيه ظلمًا وهو تائه هارب ومعاقب من الربّ (تكوين 4: 17).
وفي قصّة قايين نقرأ أنّه كان «عاملاً في الأرض»، وفي الأصل العبريّ حرفيًّا أنّه «عابدٌ الأرض» (تكوين 4: 3)، تمامًا كما كان يفترض أن يكون أبوه قبله (تكوين 2: 5- 15). في هذا، قصد الكاتب أن يقول إنّ شغل الإنسان الأوحد على وجه الأرض أن يزرع ويحصد، أي أن يسير في خطّ الحياة ذاته الذي رسمه اللَّه في خلقه، حين جعل اليابسة تنبت ثمارًا وعشبًا للأكل للبشر والحيوان معًا، فيعمل للحياة لا للموت. غير أنّ قايين توقّف عن أن يكون عبدًا في الأرض، أي عاملاً فيها مزارعًا، ليزرع فيها دم أخيه البريء. ولذا قال له الربّ، «ملعونٌ أنت من الأرض ]الأدمة، أي الأرض الحيّة[ التي فتحت فاها لتأخذ دم أخيك من يدك» (تكوين 4: 11)، فيما كان قد قال لآدم، «ملعونةٌ الأرض ]الأدمة[ بسببك» (تكوين 3: 17). وإذا كانت الأرض عادت لا تنبت لآدم إلاّ «الشوك والحسك»، فقايين طرد عن وجهها نهائيًّا، ومضى إلى أرض التيه والهروب (وهنا يتوقّف الكاتب عن استعمال عبارة أدماه، أي الأرض الحيّة، وينتقل إلى استعمال عبارة الأرض بمعناها العامّ ليشدّد على تيه قايين).
غير أنّ قايين الهارب، يحاول هذه المرّة أن يهرب من هروبه، ويفرّ من عقابه. يبني مدينةً (تكوين 4: 17) ظانًّا أنّها ستكون المطرح الذي يجد فيه اطمئنانه. هي غير الأرض التي طرده الربّ إليها. من صنعه. عالمـه كما يريده. غير أنّ الكاتب، كما رأينا، ينهي القصّة على غير ما أراد قايين. فبدلاً من أن يقتصر القتل وتاليًا الانتقام على سبع مرّات، ازداد أضعافًا مضاعفة مع لامك. فكانت المدينة قاتلةً، وما هرب قايين من مصيره، ولن يهرب أمثاله منه. لم تنجّه المدينة ولم تحمه من حضور الربّ الديّان.
المدينة في الكتاب، إذًا، منشأها وأصلها القتل، قتل البريء. هكذا أراد الكاتب أن يقدّمها لنا في روايته، وما اعتدنا أن نراها هكذا في ما كتبه أسلافنا عن مدنهم، وفي ما نكتبه نحن البشر، وفي ما نقوله ونحياه. المدينة قمّة الإنجازات البشريّة. ومنها المدنيّة، أي العيش في المدينة في مختلف جوانبه، وهي، في نظر الناس، مبتغى الوجود البشريّ. والمدينة مرتبطة بالملكيّة في الشرق القديم، وهي العالم الذي يخلقه الملك، أو كما تقول قصص الشعوب، هي العالم الذي يخلق للملك. فيها قصر الملك مركز القوّة والسيادة، وهيكل الإله، علامة على المصادقة الإلهيّة على سيادة الملك وقوّته. ما يلفتنا في كتاب التكوين، أنّ ما كتبه الشرق القديم تمجيدًا للمدينة وسيّدها، وما كتبه الأقوياء ولا يزالون عن مدنهم وسياساتها ومجدها ورسوخها وقوّتها وتسلّطها، يأتي في الكتاب تعييرًا يبلغ أوجه في رواية بناء بابل وبرجها، وذلك في النهاية التي يضعها الكاتب لما بدأه قايين إذ «كان يبني مدينةً»، حيث يقول، «فكفّوا عن بنيان المدينة» (تكوين 11: 8). والمدينة التي كفّوا عن بنيانها هي بابل، أي القوّة العظمى التي حكمت وتسلّطت على الأرض، وهكذا يراها قرّاء الكتاب الأوائل. أمّا الكاتب فحوّلها في نظرهم إلى ذكرى لكبرياء فارغة، وعقاب اللَّه بأن أعاد الناس الذين لجأوا إليها طلبًا «للاسم» والقوّة (تكوين 11: 4)، إلى مطارح الهروب، أي إلى حيث كان قايين قبل بناء مدينته.
فما يجمع مدينة قايين ومدينة بابل أنّ الاثنتين بنيتا ليهرب إليهما بانوهما من الارتحال، من الهروب. ويجمعهما أيضًا أنّ بانيهما يريدون منهما أن تكونا معبرهم إلى السماء، أي إلى رفعتهم. نرى هذا في لامك الذي، كما أشرنا، فرض نفسه إلهًا آمرًا ناهيًا لامرأتيه. ونراه أيضًا في رغبة الناس الذين بنوا بابل في أن يبنوا برجًا «رأسه في السماء» وأن يكون لهم في بنائها «اسم». ويجمعهما، على الوجه الخصوص، أنّهما تسقطان، في نهاية المطاف. تبْطل مدينة قايين، أخنوخ، في أخنوخ الجديد الذي يأتي هذه المرّة، لا من قايين، بل من شيت الذي أعطاه اللَّه آدم. ويتوقّف بناء بابل، ويحوّلها اللَّه من رمزٍ للكبر إلى رمزٍ للفوضى والهلاك.
من جهة أخنوخ الثاني، يقول سفر التكوين عنه مرّتين إنّه «كان يسير مع اللَّه» (تكوين 5: 22 و24). ويستعمل الكاتب في الأصل العبريّ فعلاً يفيد التنقّل المستمرّ من مكانٍ إلى آخر، كما تسير الأغنام مع الراعي، ليقول إنّ أخنوخ كان يسير مع اللَّه أينما أخذه. فحيث يكون اللَّه هناك يكون أخنوخ، ولذلك «لم يوجد لأنّ اللَّه أخذه» (تكوين 5: 24)، أي أنّك لا تجد أخنوخ في مكان معيّن. ليس له عنوان في مدينة، ولا بيت أو مسكن، أو متّكأ يسند إليه رأسه. مكانه هو اللَّه. وهو حيث اللَّه. واللَّه ليس في مكانٍ محدّد. والمقصود هنا أنّ اللَّه ليس في مدينة، فما هو إله مدينةٍ كغيره من الآلهة. فلو كان كذلك، لما تحدّث الكاتب عن «سيرانه» أو «تنقّله»، وتنقّل أخنوخ معه.
أمّا بابل التي بناها الناس ليكون لهم «اسم» بها، أي صيت، ووجود أبديّ، فتتحوّل إلى بناءٍ هشّ، فيبطل اللَّه بسببها اللغة ويبطل، تاليًا، الأسماء. نفهم معنى هذا وعمق مدلوله، إذا ما أخذنا في الاعتبار ما للاسم من أهمّيّة للمدن. لا مدينة من غير اسمٍ. ولا بانٍ أو بناةٍ لها من غير اسم. وغالبًا ما يرتبط اسم المدينة باسم بناتها. قايين يسمّي مدينته باسم أخنوخ ابنه، غير أنّ اللَّه يأخذ أخنوخ، ويعيد صنعه، ويخرجه من المدينة ليسير معه أنّى مضى. أمّا بابل فأراد بانوها أن يطلقوا عليها أسماءهم، وما استطاعوا، لأنّ اللَّه أوقف بناءها، وأطلق عليها اسمًا للتعيير: بابل من الفعل العبريّ «بلال» ومعناه «بلّ»، أي رشّ الماء على الشيّ، أو وضعه في الماء، ومدلولها في هذه الرواية أنّ اللَّه سكب الماء على المدينة فتبلّل لِبنها الذي كان قد صنعه بانوها، وانهار. ومعناه أيضًا «بلبل» أي نشر الفوضى، وهذا المدلول هو الذي يبرزه الكاتب في نهاية القصّة.
لدينا إذا، في هذا السياق، حركتان: حركةٌ إلى المدينة يقوم بها قايين وأهل بابل، وحركةٌ خارجها، في الأرض التي خلقها الربّ، يقوم بها أخنوخ. وتختصر هاتان الحركتان ما يعلّمه الكتاب. فمقابل قايين وأهل بابل، نجد أخنوخ السائر مع اللَّه أنّى ذهب. وقبله هابيل الراعي، أي المتنقّل، وبعد سقوط بابل يأتي نسل «سام» ابن نوح المكوّن كلّه من رعاة، وعلى رأسهم إبراهيم الذي تختصر قصّته تلك الحركة التي رأيناها في قصص البداءة. هابيل راعٍ مكانه الحقل، أرض اللَّه. معنى اسمه الهباء والباطل، أي اللاموجود. يختار اللَّه تقدمته. وفي قبول اللَّه تقدمة هابيل يكشف لنا كاتب التكوين أنّ تفضيله إنّما هو للتنقّل ولعدم الثبات في مكان لئلاّ تكون المدينة ويكون فكرها وأساليبها. أمّا إبراهيم فيخرجه اللَّه من المدينة، إلى أرض سوف يعيش فيها راعيًا، هو وابنه، وابن ابنه، ونسله إلى المنتهى. ومن هناك يدين اللَّه مصر، ويسقط سادوم وعامورة، وبعد ذلك مدن الكنعانيّين، وفي نهاية المطاف يسقط أورشليم، المدينة التي جعلت على اسمه.
إذا ما نظرنا، في هذا السياق عينه، إلى نوح وأبنائه، ومدلولات قصّتهم، نجد أنّها واحدٌ من المداميك الأساسيّة للقصّة الكتابيّة، وتأتي في الخطّ عينه الذي أحاول أن أبرزه هنا. يافث هو الأصغر، واسمه مشتقّ من فعل «فتح» في العبريّة، وهذا الاشتقاق يشار إليه في قوله، «ليفتح اللَّه ليافث فيسكن في مساكن سام» (تكوين 9: 27). أمّا اسم الابن الأوسط فهو حام، ويعني «الغضب» و«السخط». والابن الأكبر اسمه «سام» ومعناه في العبريّة «اسم»، وتاليًا لا اسم لسام، بل ينتظر اسمًا من اللَّه. لعبة الأسماء هذه نراها بوضوح في مواليد كلّ من الثلاثة. ففي حين يضع الكاتب في خانة يافث أسماء غريبة، هي أسماء مناطق بعيدة غير معروفة، ولا تؤدّي دورًا يذكر في رواية الكتاب، نرى أنّ مواليد حام هم الأمم المعروفة والتي سيكون لها دورٌ محوريّ في القصّة، ومنها كوش، وبابل، وأشّور، ومصر، ونينوى المدينة الكبيرة، ومصر، وفلستيا، وكنعان، وصيدون، وسادوم، وعامورة. كلّ هذه الأسماء من حام الغضوب والساخط، الذي يرى عورة أبيه، والذي تأتي على ابنه كنعان لعنة أبيه (تكوين 9: 25). بين مواليد يافث ومواليد حام تختلف مدلولات الأسماء. فإذا كانت الأسماء تشير إلى البعد والغرابة في يافث، نراها تشير في حام إلى مدنٍ معروفة وحضارات في التاريخ. ولا يأتي ذكر المدينة إلاّ في نسل حام، وهذا مهمّ إذا ما أخذنا في الاعتبار ما أوردته أعلاه عن المدينة.
أمّا مواليد سام، فتتّصل أسماؤهم كلّها بمعانٍ من حياة الرعي والتنقّل والبداوة. واللافت أنّه لا يبقى من أبناء نوح بعد سقوط بابل وتبديد الناس على وجه الأرض، إلاّ سام ونسله. فيدرج الكاتب، مرّة أخرى، سام ومواليده بتفصيل بعد قصّة بابل، ويعدّد أبناءه ليصل إلى إبراهيم، ومن هناك تنطلق القصّة الأطول التي سوف تأخذ إبراهيم من المدينة إلى برّيّة اللَّه وكذلك نسله، إلى أن يستعلن الربّ بكلمته في البرّيّة ويجعلها مكانًا لظهوره وحضوره.
تسقط إذًا المدينة التي على أسماء الناس، وترتفع البرّيّة، برّيّة اللَّه. والساكنون في المدن، أي الملتجئون إليها، وتاليًا، إلى قوّة وكبرياء وتعالٍ، يتبدّدون، أمّا المتنقّلون على وجه الأرض بمعيّة اللَّه فيأتي عليهم الوعد بالبركات. لا نفهم هذا إلاّ إذا عرفنا أنّ الأصل العبريّ لعبارة «البرّيّة» هو «مدبار» وهو مشتقّ من عبارة «دبار» وتعني «الكلمة»، كلمة اللَّه. في البرّيّة «مدْبار» يعلن اللَّه كلمته «دبار».
مدلولات كلّ هذه الروايات إذًا تصبّ في مكانٍ واحد: اللجوء إلى المدينة يعني الابتعاد عن اللَّه الذي خلق السماوات والأرض. أمّا المضيّ معه إلى البرّيّة فهو لاتّباع كلمته، وتحديدًا لبصق ثمرة معرفة الخير والشرّ التي كان آدم قد ابتلعها، وابتلاع كلمات اللَّه الداعية لا إلى قتل الأخ، بل إلى محبّته حتّى الموت. لا نفهم وجه المسيح في الكتاب إلاّ إذا فهمنا هذه الأمور. n