2019

5. ليتورجيا - قدّاس البروجيزميني - لبنى فارس الحاجّ – العدد الثاني سنة 2019

قدّاس البروجيزميني

 

لبنى فارس الحاج

 

أثنآء القدّاس الإلهيّ عند تهيئة القرابين يكون الكاهن قد اقتطع بدلاً من الحمل الواحد عددًا من الحملان بحسب عدد القداديس السابق تقديسها المزمع أن يقيمها خلال الأسبوع وعندما يبارك القرابين وقت الاستحالة لا يقول: «اصنع هذه الخبزات...» بل «هذا الخبز جسد مسيحك...». يقولها بصيغة المفرد لكون المسيح واحدًا لا يتجزّأ. وعندما يرفع ويقول «القدسات للقدّيسين» يرفعها كلّها معًا. وحين تجزئة الخبز المقدّس يجزّئ الأوّل فقط ويضع في الكأس الجزء المعيّن كالعادة أي I ويسكب الزاون (الماء الحارّ). ثمّ يأخذ الملعقة المقدّسة ويضعها في الكأس، ويرفع كلّ واحد من الخبز المقدّس المهيّأ للبروجيازميني مقلوبًا على الإسفنجة ويمسكه بيده اليسرى فوق الكأس، ثمّ يرفع الملعقة مملوءةً من الدم الطاهر قائلاً: «أيّها المسيح السيّد إنّ ذبيحة الأصنام قد بطلت بالدم الإلهيّ الجاري من جنبك الطاهر المحيي...»، ثمّ يسكب الدم من الملعقة على الصليب المرسوم في الخبز المقدّس من جهة اللبّ قائلاً: »اتّحاد وكمال الجسد الطاهر والدم الكريم آمين«. ويضع الخبز مقلوبًا كما هو في علبة القربان. ويعيد العمل ذاته على كلّ واحدٍ من الخبز المقدّس. ثمّ يضع العلبة في خزانة القدسات، ويتمّم الخدمة الإلهيّة كالعادة.      

توضيح بعض العناصر المؤلّفة

لقدّاس البروجيازميني

١- الإعلان الافتتاحيّ: إذ يكون الكاهن قد ارتدى ثيابه الكهنوتيّة قائلاً «من الربّ نطلب» بعد مباركة كلّ قطعة وتقبيلها، وإذ يكون قد حضّر الكأس والأغطية على المذبح كالعادة، يختم الساعة التاسعة بالختم الصغير. ومن ثمّ يرسم بالإنجيل إشارة الصليب كالعادة معلنًا: «مباركة مملكة الآب والابن والروح القدس...». يلي ذلك مزمور الغروب، فخدمة البروجيازميني تبدأ بصلاة الغروب رغم أنّ افتتاحيّتها إفخارستيّة.

٢- تلاوة المزامير ونقل القرابين: المزامير التي تقُرأ تسمّى أناشيد الدرجات لأنّها كانت ترنّم على درجات الهيكل في أورشليم تزييحًا. وهكذا يتلوها الآن الشعب المجتمع للعبادة والمستعدّ لملاقاة ربّه: «فرحت بالقائلين لي إلى بيت الربّ نحن ذاهبون» (مزمور 122: 1). احتلّت المزامير دائمًا مركزًا فريدًا وأساسيًّا في العبادة المسيحيّة. إذ رغم أنّها كُتبت منذ مئات السنين، لا نزال نجد فيها التعبير الأسمى عن صلاة الإنسان وتوبته وعبادته وتسبيحه. فكلّ موقفٍ ممكن للإنسان أمام اللَّه أو العالم أو الإنسان الآخر، كلّ موقف: من الفرح الغامر لحضور اللَّه إلى أعماق يأس الإنسان في منفاه وخطيئته وتغرّبه عن ذاته، قد وجد تعبيره الكامل في هذا الكتاب الوحيد الذي بقي، لهذا السبب، المغذّي اليوميّ للكنيسة وأداة عبادتها وبنائها الذاتيّ. وبالنسبة إلى الآباء، يقول واحد من شرّاح مؤلّفاتهم: «فقط المسيح وكنيسته يصلّيان ويبكيان ويتكلّمان عبر هذا الكتاب».

  نقل القدسات السابق تقديسها من المائدة إلى المذبح يتمّ إمّا عند البدء بتلاوة المزامير أو أثناء تلاوة الاستيخولوجيا الثالثة، وذلك بحسب تقليدين مختلفين. فالكاهن يتقدّم إلى بيت القربان حيث يسجد ويبخّر ثلاث مرّات، ثمّ يرفع علبة القربان ويجعلها على رأسه، ويمضي إلى المذبح حيث يضعها ويفتحها ويبخّر. ثمّ يرفع خبزًا واحدًا ويضعه على الصينيّة المقدّسة، ويضع النجم فوق الخبز المقدّس، ويسكب الماء والخمر في الكأس، ويضع الغطاءين فوق الصينيّة والكأس، ويضع الستر الكبير فوقهما، كما يفعل عادةً أثناء تهيئة الذبيحة. ولا يقول أثناء تتميم ذلك سوى «بصلوات آبائنا القدّيسين»، لأنّ الصلوات المعتادة قد قيلت نهار الأحد. ثمّ يسجد ويقبّل ويعيد العلبة إلى بيت القربان، ويأتي إلى مكانه أمام المائدة المقدّسة.

٣- القراءات: تتلى قراءتان الأولى من سفر التكوين والثانية من كتاب الأمثال. يجمع علماء الليتورجيا على أنّ القراءات مرتبطة بالتعليم الذي كان المزمعون على أن يتقبّلوا المعموديّة يوم سبت النور يتلقّونه من الأساقفة طيلة الصوم الكبير. تعليم الموعوظين في أيّام الصوم يعود إلى الأزمنة المسيحيّة الأولى. موضوع هذا التعليم كان مرتبطًا بكتاب التكوين وما فيه من حديث عن خلق العالم، وسقوط الإنسان وما نتج منه، وتصميم اللَّه على خلاص الجنس البشريّ بواسطة مخلّص. كما أنّ هذا السفر يكشف لنا جوهر الفهم المسيحيّ للإنسان المخلوق على «صورة اللَّه ومثاله»، كمبتعد عن اللَّه، وكباقٍ موضوعًا لمحبّة اللَّه واهتمامه وخلاصه. كما يكشف لنا أيضًا معنى التاريخ كتاريخ خلاص يقود إلى المسيح ويكتمل به. أمّا كتاب الأمثال فهو خلاصة الحكمة والتعليم الأخلاقيّ للعهد القديم، والذي بدون قبوله لا يستطيع الإنسان أن يفهم غربته عن اللَّه.

القراءات هذه لا تزال تُتلى في الكنيسة رغم أنّ الصوم بطل أن يكون الموسم التعليميّ للكنيسة، ذلك بأنّها لا تزال تحتفظ بغايتها الأساسيّة ومعناها الكامل. فإيماننا لا يزال بحاجة إلى هذه العودة السنويّة إلى الأصول والأسس الكتابيّة، لأنّه لا يمكن أن تكون نهاية لنموّنا في فهم الكشف الإلهيّ. فالكتاب المقدّس هو صوت اللَّه الحيّ الذي يحدّثنا أيضًا وأيضًا، والذي يدخلنا إلى أعماق حكمة اللَّه ومحبّته. هكذا إذًا خلال صوم الأربعين يومًا، تعود الكنيسة إلى حالة العهد القديم الروحيّة، إلى زمن ما قبل المسيح، إلى زمن التوقّع. فرغم أنّنا ننتمي إلى زمن ما بعد المسيح، ورغم أنّنا اعتمدنا به، فنحن نبتعد دائمًا عن الحياة الجديدة التي أُعطيناها، فنعود كالموعوظين.

٤- نور المسيح مضيء للجميع: في نهاية القراءة الأولى يمسك الكاهن شمعة مضيئة ومبخرة مدلاّة من تحتها ويلتفت إلى الشعب راسمًا بهما صليبًا وقائلاً: «نور المسيح مضيء للجميع». هذا الإعلان هو من الطقس القديم الذي كان يمارس في كنيسة القرون الأولى حيث كان المؤمنون يأتون بقناديلهم إلى اجتماع الصلاة، واستمرّ هذا التقليد حتّى دخل طقس قدّاس البروجيازميني، ولكن بصورة أخرى. ونجد في الإفخولوجي السينائيّ 959 الذي يعود إلى القرن العاشر الكلمات التالية: «بعد انتهاء القراءات وإضاءة القناديل ولتستقم صلاتي، يعلن الشمّاس «لنقل جميعنا...». في ما بعد، تطوّرت ممارسة هذا الطقس إلى الشكل الذي نجده في المخطوط 334 الذي يعود إلى القرن السادس عشر، والموجود في متحف موسكو التاريخيّ: «في نهاية القراءة من العهد القديم، يقف الكاهن أمام المائدة متوجّهًا إلى الشرق ويرسم بالمبخرة إشارة الصليب فوق المائدة المقدّسة معلنًا: نور المسيح مضيء للجميع». وهذا مشابه لما يحصل اليوم. فالشمعة هي الرمز الليتورجيّ للمسيح الذي هو نور العالم. وأثناء القراءة من العهد القديم توضع الشمعة على الإنجيل ويعني ذلك أنّ جميع النبوءات تمّت بالمسيح الذي فتح أذهان تلاميذه ليفهموا الكتب. عادة إضاءة النور ارتبطت أيضًا بتعليم المستعدّين للمعموديّة المقدّسة المسمّاة أيضًا استنارة، فكما أنّ العهد القديم يقود إلى المسيح، هكذا يقود الصوم إلى نور المعموديّة.

٤- لتستقم صلاتي: ترتيل هذه الآية يمكن أن يعود إلى الفترة الأولى التي ظهر فيها قدّاس البروجيازميني، حيث كانت تتمّ المناولة أثناء صلاة الغروب، ومن الممكن أنّها كانت ترتّل أثناءها. أمّا اليوم فهي تشكّل مدخلاّ انسحاقيًّا للجزء الثاني من الخدمة وهو قدّاس البروجيازميني بحدّ ذاته.

٥- طلبات وأفاشين الموعوظين والمستعدّين للاستنارة: يبدأ الجزء الثاني من الخدمة بطلبات وصلوات خاصّة من أجل الموعوظين. وفي منتصف الصوم (يوم الأربعاء من الأسبوع الرابع) تُضاف صلوات وتضرّعات من أجل المستعدّين للاستنارة/للمعموديّة. وهكذا نلاحظ مرّة أخرى التشديد على الطابع الأساس للصوم كتهيئة للمعموديّة والفصح.

٦- الدخول الكبير: بعد خروج المستعدّين للاستنارة، يتلو الكاهن إفشينين خاصّين بالمؤمنين، وذلك قبل الدخول الكبير. ويتابع قائلاً «الآن قوّات السموات...» ثلاث مرّات، ثمّ يبخّر حول المائدة والمذبح والشعب كالعادة. ثمّ يتلو المزمور الخمسين وهو يبخّر الأيقونات والمذبح والقدسات إلى قوله «حينئذٍ تسرُّ بذبيحة العدل قربانًا ومحرقات»، ثمّ يعطي المبخرة للخادم ويسجد ويستغفر ويمضي إلى المذبح. أثناء ذلك كلّه، يتلو المرتّل أيضًا: «الآن قوّات السموات...».  ثمّ تأتي أعظم لحظة في الخدمة ألا وهي نقل القدسات من المذبح إلى المائدة. هذا النقل أو هذا الدخول يشبه ظاهريًّا الدخول الكبير في قدّاس الذهبيّ الفم. ولكن، لا يكون هناك لا تقدمة، ولا ذبيحة، ولا إفخارستيّا، ولا تقديس، بل إعلان سرّ حضور المسيح في كنيسته. والكاهن أثناء هذا الدخول لا يقول سوى «بصلوات آبائنا القدّيسين». هذا النقل المعبّر عن حضور المسيح ينهي يومًا طويلاً من الصوم والصلاة والترقّب، ويعلن مجيء التعزية والفرح اللذين انتظرناهما. تجدر الإشارة إلى أنّ تطورّ طقس الدخول الكبير جاء نتيجة ضرورة نقل القدسات التي كانت تُحفظ، ليس في الهيكل ولكن في مكان خاصّ، حتّى أحيانًا خارج الكنيسة.

٨- الصلاة  الربّيّة: تلي الطلبات الصلاة الربّيّة التي هي قمّة التهيئة للمناولة، إذ هي تعلن أنّنا قبلنا أن تكون صلاة المسيح لأبيه صلاتنا، وكذلك إرادته ورغبته حياتنا.

٩- القدسات السابق تقديسها للقدّيسين + الرفع: لا ترد هذه العبارة في أقدم المخطوطات التي تحوي الخدمة، ولا في تلك القريبة منها زمنيًّا، غير أنّ غيابها لا يعني أنّ طقس الرفع والكسر عينه لم يكن موجودًا. فهذه الحركة شديدة الأهمّيّة بعلاقتها مع المناولة، إذ تعود في أصلها إلى عشاء الربّ الأخير مع تلاميذه حين رفع الخبز وشكر وكسر.

١٠- تجزئة الخبز المقدّس: أثناء ترتيل الكينونيكون (تسبحة الشركة)، يكشف الكاهن القدسات ويجزّئ الخبز المقدّس أربعة أجزاء بانتباه وورع قائلاً «بصلوات آبائنا القدّيسين أيّها الربّ يسوع المسيح إلهنا ارحمنا وخلّصنا. آمين». ويكرّرها عند وضعه الجزء IƩ في الكأس المقدّسة فتتقدّس الكأس الحاوية خمرًا، إذ إنّ الخمر يُقدّس بالمشاركة والاتّحاد مع الخبز الحامل الحياة الذي هو بالحقيقة جسد المسيح المتّحد بدمه، وليس باستدعاء الروح القدس وختمه، كما يشرح ذلك القدّيس سمعان التسالونيكيّ (1429). ثمّ يبارك الماء الحارّ ويصبّه في الكأس المقدّسة قائلاً: «بصلوات آبائنا القدّيسين...» التي يردّدها أيضًا أثناء المناولة. بعدها يضع ما بقي من الأجزاء في الكأس كالعادة، قائلاّ أيضًا «بصلوات آبائنا القدّيسين». ثمّ يقول: «بخوف اللَّه...». وهذا التحضير مع المناولة مشابهان لطقس القدّاس الإلهيّ الكامل.

١١- صلاة الشكر: بعد المناولة، تتلى صلاة الشكر، وهي قديمة. فالكاهن يطلب منّا أن نخرج بسلام عند نهاية الخدمة، ثمّ يتلو صلاة الختم التي تلخّص معنى هذه الخدمة، معنى المناولة المسائيّة وعلاقتها بجهادنا الصياميّ: «أيّها السيّد الضابط الكلّ...هبنا نحن أيضًا أيّها الصالح أن نجاهد الجهاد الحسن ونقطع ميدان الصوم ونحفظ الإيمان غير منقسم... ونظهر غالبين الخطيئة...».

الخلاصة: ليتورجيا القدسات السابق تقديسها لم يكن لها الطابع الاحتفاليّ في البدء، إذ لم تكن سوى خدمة غروب تتمّ فيها مناولة المؤمنين من الجسد والدم اللذين سبق تقديسهما. وفي الفترة الممتدّة من القرن العاشر حتّى القرن السادس عشر، وهي فترة تطوّرات ليتورجيّة مهمّة طرأت على الأشكال والممارسات الليتورجيّة، أُدخل الطابع الاحتفاليّ على الخدمة واعتبرت قدّاسًا بإزاء قدّاسَي الذهبيّ الفم وباسيليوس الكبير. هذا الأمر أدّى إلى دخول عناصر من هذين القدّاسين إلى ليتورجيا القدسات السابق تقديسها أوصلها إلى الشكل الذي نعرفها فيه اليوم. n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search