2019

1. الافتتاحيّة - المسيح المركز - الأب ميخائيل (الدبس) – العدد الأول سنة 2019

المسيح المركز

الأب ميخائيل دبس

 

 

الدائرة

هي من الأشكال الهندسيّة التي تكثّفت حولها الرموز والمعاني، إضافة إلى واقع استخدامها الكثيف في قطاعات الهندسة الإقليديّة والإدارة والتجمّعات البشريّة والاقتصاد والجغرافيا والفلك والبصريّات والعسكر والفلسفة، فهي رمز الكمال والتناغم، رمز السماء في مقابل المربّع الذي  يرمز إلى الأرض. هي رمز للحدّ الذي لا يُخرق والمُحتمى به، من هنا كثُر استعمالها في مجال التعويذات والطقوس السحريّة. هي رمز لوحدة unité الحيويّة المتنامية، إذ تُعتبر، بدءًا، نقطة مركزيّة متنامية في حركتها. يمكن لهذه النقطة المركزيّة أن تكون دائرة بالقوّة وإذا تفاعلت وتنامت شعاعيًّا تحوّلت إلى دائرة بالفعل. كما يمكن لها أن تكون خطًّا بالقوّة إذا تفعّلت باتّجاه ما لتشكّل خطًّا بالفعل يكوّن في حركته حول هذه النقطة المركزيّة دائرةً بالفعل.

هيغل والدائرة.

اعتبر هيغل الدائرة رمزًا لرحلة جدليّة
(cercle dialectique) تقوم بها نقطة مركزيّة. قوام هذه الرحلة أنّ كلّ شيء لا يكون حقيقة إلاّ في حركته التي تعكس فعل إتماميّته effectuation. «الحقّ هو صيرورة الشيء ما هو عليه. هو الدائرة التي تفترض، مسبقًا، نهايتها وهدفها الخاصَّين بها والكامنَين في بداءتها. هذه الدائرة لا تكون حقيقيّة (فعلاّ) إلاّ عبر تحـيـينـهـا actualisation المـتـنـامـي وبـــلــوغـهـا النـهـايــة».  (phénoménologie de

(l’esprit, préface

الدائرة والفلك.

بعد تخطّي معطيات الهندسة الإقليديّة المسطّحة وفرضيّاتها الحسّيّة، نشأت هندسة جديدة نظريّة قوامها أن لا وجود للخطّ المستقيم، وأنّ كلّ الخطوط التي تتصوّر لنا في حسّنا مستقيمة هي مقوّسة. كما أُقرّ في علم الفلك أنّ الفضاء مقوّس وكلّ أفلاك الأجرام السماويّة هي دائريّة أو شبه دائريّة. وهذا يستدعي وجود مركز ضابط للأجرام التي تدور في أفلاكه، إضافة إلى وجود مركز جامع يضبط مجموع المراكز الفلكيّة ويحقّق استقرار مسارها وانتظامها، وهذا ما يفسّر، علميًّا، التناغم الكونيّ.

القصد من القول إنّ المركز في كلّ ما ذكر من الحالات هو أساس الوجود ومنطلقه ومن دونه لا تستقيم حركة أو وجود أو حقّ.

دائرة اللاهوت ومركزها.

الكلام حول اللَّه، وهذا معنى عبارة لاهوت، في المنظور الأرثوذكسيّ مسيحانيّ المركز christocentrique، المسيح مركزه، منطلقه، بداءته ونهايته. هذا التوصيف يحمل في طيّاته أبعادًا وجوديّة ومعرفيّة وخلاصيّة، إذ يجعل اللاهوت الأرثوذكسيّ أبعد من الكلام والعلم، يجعله عَرَبةَ كلماتٍ مخلوقةٍ تنقل إلينا الحياة الإلهيّة التي كشفها لنا يسوع المسيح لعيشها والبلوغ، عبرها، إلى «اللَّه الآب الحقّ وحده والذي أرسله يسوع المسيح» (يوحنّا ٣: ١٧). لم يُنعت اللاهوت الأرثوذكسيّ بالإلهيانيّ المركز théocentrique بل بالمسيحانيّ المركز christocentrique. مركز لاهوتنا وحياتنا وتقديسنا ليس إلهًا مطلقًا فحسب، بل إلهًا متجسّدًا ابنًا وحيدًا للَّه الآب. فكما أنّ الدائرة وما ترمز إليه لا وجود لها من دون مركز، فلا وجود للاهوت من دون يسوع المسيح. جهلنا شخصيّة يسوع يجعل لاهوتنا مماحكة ناموسيّة. المسيح هو الذي يقودنا إلى الآب وبه نمتلئ من الروح القدس الذي يتمّم عمل الابن الخلاصيّ. «إذا انفصلتم عنّي لا تستطيعون أن تعملوا شيئًا» (يوحنّا 15: 5). إنّ التلهّي بعطايا اللَّه غالبّا ما يفصلنا عن المعطي. درء هذا الخطر لا يتمّ إلاّ بالتعرّف إلى يسوع المسيح.

من هو يسوع المسيح؟

كيف لنا أن نعلّب هذا الشخص في تعريف؟ ما يهمّنا هنا أن نتذكّر أنّه شخص عاش في حقبة تاريخيّة محدّدة، هو في التاريخ ومن التاريخ ولا يمكننا أن نتعرّف إليه خارج هذا التاريخ. أساس معرفتنا به قائم على الاعتراف بأنّه إله جاء إلى الإنسان ليخاطبه مباشرة بعد أن خاطبه بالواسطة، وبأنّه إنسان مثلنا. هو الإله الذي اتّخذ بشريّتنا ليكشف لنا كيف نحيا حياته الإلهيّة التي خلقنا، أصلاً، لنشاركه فيها. هو نموذج الإنسان الذي خلق على صورة اللَّه والذي بلغ مثال اللَّه. هو الكاشف لحياة اللَّه المثلّث الأقانيم، الكاشف للشركة الإلهيّة التي دعانا إلى عيشها، حسب قدرتنا، في ما بيننا نحن البشر. غاية هذا الكشف هو الإنسان. وهو المنتفع الوحيد منه. لايكتسب كلّ الجهاد البشريّ معناه إلاّ إذا بلغ هذا المنتهى: المجد الإلهيّ الذي أعطي له عبر يسوع المسيح الإله ـ الإنسان، مركز دوائرنا وهدف تنامينا، حبّ اللَّه المتنامي إلينا والمفعّل بنا لنبلغ غاية وجودنا ومعناه. وتبقى معرفة المسيح ناقصة إذا انحصرت بمعرفة إحدى طبيعتيه الإلهيّة أو الإنسانيّة، فتكون معرفتنا، في هذه الحالة، وجهًا من أوجه بدعة الطبيعة الواحدة (monophitisme) التي عانت منها الكنيسة قديمًا ولا تزال.

كيف نتعرّف إلى المسيح؟

الكنيسة. هي المجال الحيويّ لمعرفتنا يسوع المسيح، الجماعة المغتذية منه والشاهدة له، جسده الممتدّ عبر الأزمنة وإلى انقضاء الدهر. كلّ معرفة خارج الجماعة الكنسيّة منقوصة ومعرّضة للتشويه ويشوبها خطر الانتفاخ والتصوّرِ بحسب حكمة هذا العالم.

الكتاب المقدّس. العودة إليه تضعنا أمام يسوع المسيح وتدفعنا إلى اكتشاف أقواله وأفعاله ومواقفه التي عرضها لنا كتّاب الوحي، لتكون لنا قانون قياس لسلوكنا في المسيح، شرط ألاّ نقتلعها من إطارها التاريخيّ والحضاريّ. الأخلاقيّات المسيحيّة تتحوّل إلى ناموس حجريّ إذا لم نضع المسيح في مركزها. والكتاب المقدّس هو خير معين لنا في هذا المجال، على أن نتعامل معه من منظور الوحي لا من منظور الإنزال.

القدّيسون. هم كتب حيّة جسّدت حياة المسيح في الزمان والمكان. هم التحيين actualisation الذي ذكره هيغل، وهم الذين أكّدوا أنّ حقيقة المسيح وخلاصه هما فعل واقع. هم صورة له نقرأ فيها شخص المسيح عبر حياتهم وكتاباتهم. هم نِعَم من الله لنا. ليسوا الهدف الذي نقف عنده وليسوا الخمرة التي تُسْكِرُنا فنغفل بهم عن المسيح الحاضر فيهم، ونتسمّر على أعاجيب صنعوها وأخرى أُلصِقت بهم من قبل تقويّة حوّلت الإيمانَ الفاعل بالمحبّة إلى طقوس سحريّة، والإلهَ المحبّ إلى ساحر لا يكلّف الإنسان أيّ جهد.

الصلاة. هي الوسيلة المعرفيّة الأسمى والأعمق، أمامها تصمت كلّ معرفة وحكمة (إفاغريوس البنطيّ ـ ذياذوخوس فوتيكي ـ مرقس الناسك). المعرفة الصلاتيّة هي لقاء العاشق بمعشوقه. لقد بذل مصلّو الأرض عرقًا ودمًا لبلوغ صلاة كهذه. هي المطاف الأخير الذي عنده نقطف ثمار ما اقتنيناه من أدوات المعرفة السابق ذكرها. هذه الأخيرة لن تكون عادمة النفع لأنّها هي التي تساعدنا على التعرّف، ولو جزئيًّا، إلى من نصلّي له. هي التي تحيطنا بجدار الأمان في مسيرتنا الصلاتيّة. استقامة الصلاة وبلوغ ثمارها يفترضان هذه الأدوات المعرفيّة التي تحفظنا في اتّجاه صلاتيّ مستقيم وأصيل، وتقينا خطر الصلاة الفرّيسيّة وأخطارًا أخرى.

ونحن في الذكرى الـ75 لانطلاق مجلّتنا ندعو كـلّ مـن يتعـرّف إلـى المسيـح عـبـر ما ذُكر أن يعبّر عن معرفته بواسطة مقالات يمدّنا بها في هذه المجلّة.n

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search