التربية في الجماعة الإفخارستيّة:
المناخ والمرافقة
د. جورج معلولي
الجماعة الإفخارستيّة هي المناخ الذي ينمو فيه المؤمنون ليصيروا إلى الرجاء الذي هم مدعوّون إليه. الإفخارستيّا هي الإمكانيّة الوحيدة لربط حقيقة اللَّه وحقيقة الإنسان معًا: واقع العالم الخاطئ والمتألّم، واقع الأرض المظلمة والإنسان المعذّب والمائت، وفي الآن عينه سرّ التحوّل، التجلّي، والقيامة أي سرّ الملكوت (ألكسندر شميمان). فقد المؤمنون في أزمنة الانحطاط هذا المعنى الجماعيّ الواسع والكونيّ للحياة الإفخارستيّة. فانحدرت الحياة الكنسيّة إلى تقوى فرديّة منفصلة عن حياة الجماعة ومهدّدة بتشوّهات عديدة على صعيد الفهم الإيمانيّ والحياة الروحيّة. غدا الناس ينظرون إلى العالم كشيء «دهريّ»، «عالميّ»، «دنيويّ»، غير مقدّس، وينظرون إلى الحياة المسيحيّة كشيء منفصل، فرديّ، بعيد «روحيّ». في كون بارد وغريب، يرى فيه الإنسان نفسه جسدًا عضويًّا سائرًا إلى الموت، انفصل الفعل المجتمعيّ في عالم اليوم عن الحياة الداخليّة، وانفصلت الحياة الداخليّة عن التقليد القديم الحيّ، حيث اختبر المسيحيّون حياة الجماعة متمركزة حول الإفخارستيّا وممتدّة إلى العالم. الكثير ممّا نلمسه عند شباب اليوم من تفتيش عن قضيّة يناضلون من أجلها، وسلام داخليّ يسعون إليه ومعرفة للنفس يبحثون عنها بطرائق عديدة، إنّما يجب أن يعيدنا إلى ينابيع الروحانيّة الأرثوذكسيّة الأصيلة واللاهوت الصوفيّ والحياة الجماعيّة، حتّى لا تتحوّل إلى مجتمعات بشريّة أو مؤسّسات إداريّة. الأصوليّة والتطرّف، الشرائعيّة الفرّيسيّة، التسلّط، كلّها سلوكيّات تنفي الكنيسة كـ«شعب اللَّه»: الأمّة المختارة، الكهنوت الملوكيّ، والشعب السالك من الظلمة إلى النور. لا يصنع السلام والوحدة في الجماعة والعالم إلاّ من كان في سلام مع نفسه. من هنا الجهاد والنسك اليوميّ عمل دؤوب يصقل فيه المؤمنون أنفسهم جواهر كريمة، مستلهمين خبرات التقليد النسكيّ القديم بحكمة وتمييز لتكون حياة الجماعة الإفخارستيّة طاهرة لا غضن فيها، بيتًا رحبًا مفتوحًا للجميع وخميرة في عجين العالم.
كيف تنقل هذه الرؤية إلى الكلّ وكيف يسهم كلّ لقاء في بناء الأشخاص، وتجسيد المشورة وتغذية بعضنا بعضًا بطاقة الحبّ في روح البساطة والفرح في المسيح يسوع؟ كيف نرافق بعضنا بعضًا في معالجة الهموم الكنسيّة وحياة الجماعة؟ كيف نخفّف ثقل «الآلة» التنظيميّة حتّى تسري الحياة بين العقول والقلوب في الجماعة الإفخارستيّة؟ المرافقة الأخويّة الواعية المغتذية دومًا من إلهامات الكلمة والروح والمتأصّلة في المحبّة محور أساس في حياة الجماعة.
نقرأ في سفر طوبيّا: «بينما خرج طوبيّا إذا بفتى بهيّ قد وقف كأنّه متأهّب للمسير، فسلّم عليه وهو يجهل أنّه ملاك اللَّه... فقال له طوبيّا هل تعرف الطريق الآخذة إلى بلاد الماديّين؟ قال أعرفها وقد سلكت جميع طرقها مرارًا كثيرة». «الطريق» اسم آخر للإيمان المسيحيّ في أعمال الرسل، يمشي فيها الإخوة معًا جاعلين بعضهم بعضًا تلاميذ للمعلّم السماويّ. وضع اللَّه نفسه في تجسّده مكان الإنسان، لتكون جاذبيّته بوصلة تحرّك الإنسان من الداخل، شريعة مكتوبة في القلوب اللحميّة وليس على الحجر: «فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضًا كذلك فيهما، لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس ويعتق أولئك الذين - خوفًا من الموت - كانوا جميعًا كلّ حياتهم تحت العبوديّة... من ثمّ كان ينبغي أن يشبه إخوته في كلّ شيء، لكي يكون رحيمًا، ورئيس كهنة أمينًا في ما للَّه حتّى يكفّر خطايا الشعب. لأنّه في ما هو قد تألّم مجرّبًا يقدر على أن يعين المجرّبين». (عبرانيّين 2: 14– 18). يسوع هو المرافق بامتياز، السائر معنا كما مع تلميذي عمواس، في طريقنا الشخصيّ حيث يمتزج البحث بالحيرة والحزن والشوق وابتغاء القيامة. وكما قال روحه لفيلبّس: «اذهب إلى تلك العربة ولازمها». (أعمال 8) يرسلنا لنلازم بعضنا بعضًا في عربتنا في الحياة عسانا نتمكّن من أن نفهم ما نقرأ ونلاقي الحمل في ابتهاج خدره في النفس وفي الكنيسة.
أضاء هذا الإيمان بالأخوّة وقدسيّة الشخص علاقات المرافقة والتلمذة والإرشاد في حياة الجماعة في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، وتجسّدت في شخصيّات عرفناها كالأخ كوستي بندلي والمطران جورج (خضر) والأب إلياس (مرقص)، وما زلنا نعاين يوميًّا هذه الأنوار في شباب يتلمذون بعضهم بعضًا للشمس التي لا تغرب. غير أنّ الحاجات كبيرة ولا بدّ من جهد مستمرّ لنقل هذه الوديعة بشكل منهجيّ وسليم للأجيال.
يعوز الإخوة دائمًا تخصيص ما يلزم لرعاية خاصّة ومميّزة لمن هو بحاجة إليها. التربية الحقّ تشجع على عيش الحياة وتذوّق تجلّيات اللَّه بها، ولا تكتفي باشتهاء الجمال والتكلّم عليه من دون اختباره. تحترم كلّ خبرة وتؤمن بأنّ اللَّه عامل وفاعل بها مهما بدت عاديّة فتعمل على تنمية بذور الحقّ فيها. هذا ينشأ في علاقة تربويّة مؤسّسة على الاحترام والإصغاء والثقة والنظرة الإيجابيّة غير المشروطة أي المحبّة المجّانيّة المحرّرة.
التوق الأخير هو إلى القداسة. الخليقة الجديدة والإنسان الجديد مرادفان للقداسة التي نبتغيها في حياتنا الجماعيّة. أحبّاء اللَّه يدعوهم بولس الرسول كلّهم قدّيسين (رومية 1: 7). هم ملح الأرض ونور العالم (متّى 5: 13- 14). وهم كالشهداء أصدقاء العريس المجروحون بحبّه. لا تجد القداسة مرجعها في لغة هذا العالم إنّما في قداسة اللَّه نفسها. هذا هو فعل اللَّه الأخير: «لا أعود أسمّيكم عبيدًا بعد بل أصدقاء» (يوحنّا 15: 14- 15). يظهر القدّيسون مكان كشف إلهيّ. فبعد أن كان في العهد القديم أماكن مقدّسة يكشف اللَّه نفسه فيها، أصبحت الأرض كلّها مجالاً لكشف مجد اللَّه منذ العنصرة، حتّى يمدّ القدّيسون تأجّج العلّيقة الملتهبة إلى كامل زوايا المسكونة.
تظهر جدّة القدّيس غريبة عن القديم في هذا العالم، وعن المعتاد. ما يعثر غير المؤمنين هو أنّ المسيحيّين ليسوا كلّهم قدّيسين. قال أحد الكتّاب إنّ عالمنا المعاصر يحتاج بخاصة إلى قدّيسين جدد، مبدعين ومجدّدين أي إلى أشكال جديدة من القداسة. ذلك بأنّ مصير العالم مرتبط بموقف كلّ مسيحيّ منه. إلى أيّ مدى يشعر العالم عبر احتكاكه بالمؤمنين بمحبّة اللَّه المحوّلة؟
المؤمن الحقّ يخلّص العالم لأنّه يحبّه. أتت الساعة حيث لا يكفي أن يتكلّم المؤمن على مسيحه بل أن يصيره هو نفسه أي مكان حضور له وإشعاع. إبداع المؤمن وفنّه في أن يستنبط كلّ الأساليب والأشكال التي تجسّد حضور يسوع في حضارة اليوم. كان يحلو للقدّيس سلوان أن يذكر القدّيس يوحنّا كرونشتادت القائل عن الروحانيّين الحقيقيّين: «محتجبين عن أنظار الناس، لا يصنعون عجائب ظاهرة. ولكن في نفوسهم، كلّ يوم، تحصل عجائب حقّ». يمر تجلّي الحياة اليوميّة حتمًا بالدفاع عن المظلومين (العمّال والفقراء... كما في حياة القدّيس يوحنّا كرونشتادت). فإذا أخذت التوبة بعدًا جماعيًّا يتفشّى ملكوت اللَّه في هذا الزمان. «من كان المسيح كلّ وجوده ينقذ الكنيسة من أعدائها، من طغمات منظورة وغير منظورة. من هنا صوت الرهبانيّة الكبيرة المدوّي الذي ينقلنا إلى أنّ اللَّه وحده يعزّينا عن كلّ شيء ويكفينا» (المطران جورج (خضر)). من هنا أيضًا الرهبانيّة الداخليّة أو المستدخلة التي يعيشها المؤمن في حياته اليوميّة (بحسب تعبير إڤدوكيموڤ). قدّيس اليوم هو إنسان ككلّ الناس ولكنّ كلّ كيانه قضيّة حياة أو موت يطرحها على العالم. يترجم القدّيس للسماء معاناة إخوته ويترجم للأرض ابتسامة الآب ومحبّته المجنونة. لذلك يعوزنا قدّيسون مجانين. يأخذ القدّيس على محمل الجدّ قول الرسول بولس: «إذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون أيّ شيء فافعلوا كلّ شيء لمجد اللَّه» (1كورنثوس 10: 31). هذه نكهة الإنجيل في تعاطي أمور العالم. في يد الفلاّح في أرضه أو الباحث في مختبره تنكشف المادّة خليقة جديدة إذا رافقت هذه النكهة كلّ عمل. تخترق القداسة كمدة هذا العالم وتعيد إلى الأرض شفافيّتها الأولى وتظهر الجماعة الإفخارستيّة نافذة من نور تنعش الحياة. n