رحم الله:
أضواء من القدّيس إسحق السريانيّ
د. جورج معلولي
الأفكار الرئيسة:
- محبّة اللَّه مبدأ وجود الكون ومسيرته عند القدّيس إسحق.
- تظهر أبوّة اللَّه في عنايته بكلّ الكائنات ورحمته الفائقة.
- أظهر التجسّد حقيقة اللَّه المستترة في العهد القديم.
- تخفت صورة اللَّه الديّان عند القدّيس إسحق أمام صورة اللَّه المحبّ والرحيم.
- قلب الإنسان الرؤوف يشابه رحمة اللَّه.
محبّة اللَّه عند القدّيس إسحق السريانيّ هي أوّلاً محبّة غير محدودة ولا قياس لها. هذه فكرة مركزيّة ومهيمنة في فكر القدّيس إسحق السريانيّ وهي في أساس لاهوته، وإرشاداته النسكيّة وتأمّلاته الصوفيّة. لا يُفهم شيء من فكره خارجًا عن محبّة اللَّه. محبّة اللَّه تفوق كلّ إدراك وكلّ كلمات الوصف ولكنّها في الوقت عينه تنعكس في أفعاله تجاه البشر والعالم المخلوق: بين كلّ أعماله ليس من عمل غير مفعم كلّيًّا من المحبّة، الرحمة والرأفة. هذه الألف والياء في تعامله معنا. من هنا لخلق العالم وتجسّد الله هدف واحد: كشف هذه المحبّة غير المحدودة. محبّة اللَّه هي في أساس وجود الكون: هي مبدأه، تضبطه وتوجّهه نحو غايته الأخيرة: حالة التجلّي المذهلة حيث سيُبتلع العالم في المحبة الإلهيّة: «بالحبّ خلق اللَّه العالم، بالحبّ يقوده في وجوده العابر، بالحبّ سيأتي به الى ذلك التحوّل العجيب وبالحبّ سيُبتلع العالم في سرّ الإله العظيم الذي أظهر كلّ هذه الأشياء. وبالحبّ سوف يكون مسار الخليقة مشمولًا في نهاية المطاف». ذلك بأنّ الله يريد اشتراك كلّ الخليقة في مجده. الحبّ الإلهيّ هو القوّة الدافعة لوجود الخليقة والتحقيق المستمرّ لقوى اللَّه الخلّاقة والكشف الإلهيّ في فعل الخلق. «تغلّف العناية الإلهيّة كلّ الكائنات البشريّة في كلّ حين، ولكن يراها وحدهم الذين طهّروا أنفسهم من الخطايا، وحفظوا ذكر اللَّه في ذهنهم في كلّ لحظة» يقول إسحق. فإذا “كنت موقنًا أنّ اللَّه يعتني بك، فلا حاجة لك أن تحمل همّ الجسد ولا أن تنشغل باكتشاف طرائق لترتيب أمورك وتسييرها. أمّا إذا كنت تشكّ في عناية اللَّه وتريد أن تهتمّ بنفسك من دونه، فأنت إذ ذاك تكون أشقى الكائنات».
ليس اللَّه خالق العالم فحسب. إنّه الآب الذي يتجاوز حبّه كلّ محبّة أبويّة. يتّصف تعامله مع العالم المخلوق بالعناية الدائمة بكلّ سكّانه: الملائكة والشياطين، الإنسان والحيوان. محبّة اللَّه كونيّة وتضمّ الكلّ: ليس أحد مرذولًا من هذا الحبّ. كلّ المخلوقات هي محبوبة من الله حتّى قبل أن يخلقها. هذا الحبّ لا يلغيه السقوط إذ لا شيء ممّا يحدث في الخليقة يغيّر طبيعة اللَّه المجيد الكامل في حبّه. لذلك يحبّ اللَّه الخطأة والأبرار ويشرق بشمس حبّه على الجميع.
تغلّف رحمة اللَّه كلّ البشر وإن كانت أفعالهم تستحقّ التوبيخ. إنّه قبح وكفر –يقول إسحق– أن نظن أنّه يمكن للكراهية والانتقام أن يخامرا فكر اللَّه حتّى تجاه الشياطين. يحترم اللَّه حرّيّة الإنسان احترامًا كلّيًّا ولا يريد صنع أيّ شيء ضدّها. لا ينتقم اللَّه لنفسه من أفعال الإنسان الماضية، بل يساعده على إصلاح نفسه لتظهر فيه صورة اللَّه الكاملة. «كما أنّ حبّة الرمل لا توازي في الميزان ثقلاً كبيرًا من الذهب، كذلك عدل اللَّه لا يوازي رأفته. إذ إنّ خطايا البشر بالنسبة إلى فكر اللَّه هي كحفنة رمل ملقاة في البحر. وكما أنّ نبعًا يفيض بغزارة لا تعيقه حفنة غبار، كذلك لا يقوى على رحمة اللَّه شرور أولئك الذين أبدعهم» (إسحق السريانيّ).
لقد أثبت المسيح نفسه عدم عدالة اللَّه في مثل الابن الشاطر ومثل فعلة الكرم. فأين عدالة اللَّه والمسيح قد تألّم من أجلنا ونحن خطأة؟ لذلك يقول القدّيس إسحق إنّ نصوص العهد القديم التي يظهر فيها اللَّه بمظاهر الغضب والحقد والانتقام يجب ألاّ تُفسّر حرفيًّا. لأنّ هذه الصفات بعيدة كلّيًّا عن طبيعة اللَّه. يجب أن نبحث تحت قشرة هذه الصور الخارجيّة عن رحمة اللَّه وحكمته المختبئة فيها. «إرهب اللَّه– يقول إسحق(١)- حبًّا به، وليس خوفًا من القسوة التي نسبت إليه». مهما حصل للعالم ومهما ابتعدت الخليقة عن خالقها يبقى الله أمينًا لمحبته التي لن ينكرها ولا يستطيع أن ينكرها بحسب قول القدّيس.
التجسّد أعلى درجة من الكشف عن محبّة اللَّه وفرصة الإنسان للتجاوب مع هذا الحبّ. بسبب التجسّد، يستطيع الإنسان أن يماثل اللَّه في المحبّة. لم يرد اللَّه أن يغتصب حرّيّتنا بل رغب في أن يستدرّ حبّنا باقترابه منّا. لو كان لدى اللَّه ما هو أثمن ليقدّمه لنا لكان صنع هذا لنكون في ملكوته. لقد قبل المسيح الإهانات والقتل بسبب هذه المحبّة. يرتقي القدّيسون إلى هذا الكمال بمماثلتهم لهذه المحبّة وفي فيض حبّهم لكلّ البشر يشابهون اللَّه. بخلاف العهد القديم حيث لم يكن للشعب القدرة على محادثة اللَّه، يأتي اللَّه في التجسّد، ليس في الزلازل و البراكين والنار، بل يظهر كالندى النازل على التراب. لقد ستر اللَّه نفسه بحجاب الطبيعة البشريّة ليكشف نفسه للبشر. في يسوع فتح باب الرؤية للبشر والملائكة الذين لم يكونوا قادرين على اختراق هذا السرّ قبل التجسّد. هنا يظهر الحبّ الإلهيّ السبب الرئيس للتجسّد جاعلًا كلّ سبب آخر ثانويًّا. يسوع هو خبز الحبّ عند إسحق: «عندما نجد الحبّ، نأكل الخبز السماويّ، ونتلقّى الغذاء بدون تعب أو ضنك. الخبز السماويّ هو الإله الذي نزل من السماء ويعطي حياة للعالم. هذا هو أكل الملائكة. فالذي لقي الحبّ، يستهلك المسيح في كلّ آن، ويصبح خالدًا مذ ذاك». لذلك يدعو القدّيس: «لتظمأ نفسك إلى المسيح حتّى يسكرك بحبّه».
تخفت صورة اللَّه الديّان عند القدّيس إسحق أمام صورة اللَّه المحبّ والرحيم. تبقى الفكرة-المفتاح عند القدّيس إسحق هي أنّ الهدف النهائيّ للكون يكمن في الامتلاء من مجد اللَّه ورحمته. رجاؤه أنّ اللَّه سيضع حدًّا لعذاب الجحيم.
هذا برأيه لا يؤدّي إلى التساهل وفقدان مخافة اللَّه عند الإنسان. محبّة اللَّه الأبويّة تولّد عند الإنسان المحبّة البنويّة ونتيجتها التوبة تجاوبًا مع رحمة اللَّه. أمّا صورة اللَّه المنتقم فتولّد خوف العبوديّة. لا ينسى القدّيس مثل خراف اليمين وجداء اليسار ولكنّه يعتبره تنبيهًا نبويًّا هدفه محبّة القريب. فالدينونة تفضح الحالة الروحيّة التي يعيشها الإنسان في حياته على الأرض. يبدو أنّ إسحق كان منزعجًا من الفكرة الشائعة أنّ الفردوس نصيب حفنة قليلة من البشر، وأنّ الأغلبيّة محكوم عليها بالجحيم. الحقّ أنّ حدس القدّيس يخالف كلّيًّا هذه الفكرة. هذا الرجاء موجود عند آباء سبقوا إسحق زمنيًّا. غير أنّه ليس مجرّد استعارة ممّن سبقوه ولكنّه متّصل اتّصالًا وثيقًا باختباره الروحيّ الشخصيّ وعلاقته مع اللَّه.
تتجلّى هذه العلاقة مع اللَّه في القلب الرؤوف. من هو القلب الرؤوف؟ هو القلب الملتهب من أجل خلاص الخليقة كلّها، البشر، الطيور، الحيوانات، الشياطين، وكلّ مخلوق، من أجل خلاصهم، تنهمر عيناه دمعًا غزيرًا. بسبب قوّة الرحمة القابضة على قلبه، يتّضع قلبه فلا يتحمّل أن يسمع أو يرى أيّة أذيّة أو ضيق لأيّ مخلوق. لهذا، يقدّم صلاة دامعة حتّى للوحوش غير العاقلة، لأعداء الحقّ، والذين يؤذونه، حتّى ينالوا الرحمة. هكذا يصلّي أيضًا للزواحف بسبب الشفقة الكبيرة التي يلتهب بها قلبه بلا قياس على شبه اللَّه. فالإنسان الرؤوف –بحسب القدّيس- طبيب نفسه، لأنّه، وكما بريح شديدة، يبدّد من كيانه الداخليّ غيمةً سوداء. «أنظر، فهذه هي الإشارة التي ستدلّك إلى صفاء نفسك: إذا فحصت نفسك فوجدتها مملوءة بالرحمة للبشريّة جمعاء، وقلبك مجرّح بالشفقة، ويحترق كما بنار على كلّ إنسان بدون تمييز». هذه الرأفة متصلة بشكل وثيق بمحبّة اللَّه واختبار رحمته. فالقلب المتّسع بهذه الرحمة المضيئة كما يسميها إسحق يماثل سعة رحم اللَّه الحاضن الكلّ.n
إذهب الى العمق :
- ISAAC THE SYRIAN: A THEOLOGIAN OF LOVE AND MERCY. Bishop Hilarion Alfeyev