2018

10. قدّيسون: الشيخ يعقوب (تساليكيس) قدّيسًا - النور – العدد الخامس سنة 2018

الشيخ يعقوب (تساليكيس) قدّيساً

النور

 

 

أعلن المجمع المقدّس لكنيسة القسطنطينيّة برئاسة البطريرك المسكونيّ برثلماوس قداسة الشيخ يعقوب يوم الاثنين الواقع فيه 27 تشرين الثاني 2017. من هو القدّيس الجديد؟

هو الأرشمندريت المتوحّد يعقوب (تساليكيس)، الذي لمع في النصف الثاني من القرن العشرين لا كراهب ناسك وحسب، بل إنّما أيضًا كَراعٍ وأب روحيّ عميق البصيرة مرهف الإلهام، على طيبة وبساطة كالأطفال كما يشهد كلّ من جلس إليه أو التقاه. كاهن قبرصيّ كان يسترشد الشيخ يعقوب قال عنه مرّة إنّه يكفيك أن تُعاشر الشيخ يعقوب قليلاً، لتفهم ما هي «الحياة المُستَترة مع اللَّه في المسيح» التي يتحدّث عنها القدّيس بولس (كولوسّي 3: 2). كثيرون ممّن التقوه شبّهوه بالملاك لقَدر ما كان حضوره «شفّافًا»، آخرون قالوا إنّك ما إن تجلس إليه حتّى ترى فيه الحبّ متجسّدًا. أبونا القدّيس بورفيريوس الرائيّ، الذي عاصره، سمّاه مرّة «مرآة للفضيلة والصبر المقدَّس والتواضع». هذا وما إن علم القدّيس بورفيريوس برقاد الشيخ يعقوب حتّى قال «هذا الرجل من أعظم قدّيسي عصرنا». تجدر الإشارة إلى أنّه بين رقاد قدّيسَينا هذين، أحد عشر يومًا.

في الخامس من تشرين الثاني السنة 1920 وُلد يعقوب لعائلة تقيّة فاضلة من «ماكري» الساحليّة في آسيا الصغرى (تركيا الحاليّة). والده كان معماريًّا ذائع الصيت لحرفيّته وأمانته، الشيء الذي أمَّن للأسرة بحبوحة لا بأس بها. لكنّ الثروة الأهمّ للوالدين كانت تقواهما أمام اللَّه وتمسّكهما بعيش الفضيلة، فكانت المحبّة المقدّسة الرابط المتين بين أفراد الأسرة، ومنهم إلى كلّ من كان حولهم. في مطلع السنة 1922، حصلت كارثة تهجير المسيحيّين من آسيا الصغرى، اعتقل الأتراك الوالد وهُجِّرت العائلة إلى اليونان، ويعقوب الصغير ما أتمّ السنتين من عمره بعد. تنقّلت العائلة، كسائر من هُجِّروا من آسيا الصغرى، من مكان إلى آخر بين مواضع تجمّع المهجَّرين، لثلاث سنوات وهم لا يعرفون عن الوالد شيئًا، وفي ظنّهم أنّه قضى في الاعتقال كالكثيرين من الرجال الذين اعتقلهم الأتراك. خريف العام 1925، وبينما كانت جدّة يعقوب لأبيه مارّة أمام ورشة بناء، سمعت صوتًا مألوفًا فدخلت بين العمّال وإذ هي أمام ابنها، والد يعقوب. كان الأتراك قد أطلقوا سراحه منذ نحو سنة ونفوه إلى اليونان، وهو كان مذذاك يبحث عن عائلته، وقد ابتدأ ييأس.

التمّ إذًا شمل العائلة من جديد وانتقل الجميع إلى قرية في شمال جزيرة إيفيا. هناك مُنحوا حصّة ملكيَّة فبنى الوالد منزلاً صار البيت العائليّ، وفيه عاش يعقوب حتّى انتقاله إلى الدير. لا شكّ في أنّ جوّ التُقى العائليّ أثّر في يعقوب الصغير كثيرًا. الصلوات والتراتيل وقصص القدّيسين ظهرت تستهويه منذ الخامسة من عمره، وفي السابعة – ولم يكن يذهب إلى المدرسة بعد – حفظ معظم القدّاس الإلهيّ عن ظهر قلب. أمران كانا الأحبّ إلى قلبه: خدمة الكاهن في الصلوات الكنسيّة، والذهاب إلى المزارات والكنائس الصغيرة التي كانت مزروعة هنا وهناك في البرّيّة، للصلاة ساعات مُقَلّدًا، ببراءة الأطفال، الآباء النسّاك. أمضى صغره وشبابه هكذا، عشير القدّيسين حتّى بات أليف حضورهم وعجائبهم. ألفته هذه مع القدّيسين، ونمط عيشه الذي لا يشبه عيش الأولاد أترابه، جعلا أهل القرية يسمّونه «القدّيس الصغير» و«ولد اللَّه». وإذ لم يكُن في القرية كاهن مقيم، كان أهل القرية يلجأون إلى «القدّيس الصغير» ليصلّي من أجلهم في الأمراض والضيقات. كان يعقوب الصغير إذذاك يتلو من أجلهم الصلاة الربّيّة وغيرها من الصلوات التي كان يحفظها، بعفويّة وبساطة واتّضاع، وكانت صلواته تُستَجاب فورًا.

عندما أنهى مرحلة التعليم الابتدائيّ، وإذ لم تكن العائلة تملك مالاً لإرساله إلى المدن لإكمال تعليمه، صار الفتى يعقوب يرافق والده إلى ورش البناء، في القرية وخارجها، حتّى أتقن مهنة البناء ولم تكن أتعاب المهنة تثنيه رغم هزالة بنيته الجسديّة. في مطلع العشرين من عمره، سمعه متروبوليت الناحية مرّة في الكنيسة يرتّل، أُعجب كثيرًا بصفاء صوته وعذوبة ترتيله فسامَه قارئًا. منذ ذلك الحين زاد الشابّ يعقوب بعض التشدّد في أصوامه وصلواته، إذ لم يعتبر نفسه البتّة أهلاً لهذه الكرامة. نشير هنا إلى أنّ شهادات كثيرة عن أيّام شبابه تتحدّث عن كم كان لافتًا تشدّد هذا الشابّ في الأصوام والسهر في الصلاة وسائر الممارسات ذات الطابع النسكيّ، سيّما وأنّها كانت بملء إرادته وحسب إذ لم يكن راهبًا. بقي إذًا على هذه الحال حتّى ذهابه إلى إتمام خدمته العسكريّة السنة 1947. رفقاؤه هناك كانوا يسمّونه تهكّمًا «أبونا يعقوب». أمّا رئيسه وبعض الآخرين فكانوا يعاملونه بتقدير واحترام، ولعلّهم تحسّسوا فيه كِبَر قامته الروحيّة. السنة 1949 أنهى خدمته العسكريّة، وفي السنة ذاتها رقد والده. ركّز اهتمامه على شقيقته، عملاً بوصيّة والدته القدّيسة قُبيل رقادها السنة 1942، حتّى تزوّجت الشقيقة فصار حُرًّا لينطلق إلى الرهبنة، غاية مُناه منذ الصغر.

السنة 1952 قُبِلَ الشابّ يعقوب راهبًا في دير البارّ داود (نُعيّد له يوم 1 تشرين الثاني) في إيفيا، أبقى له اسم يعقوب، وفي 19 كانون الثاني من السنة ذاتها سيم كاهنًا في خالكيذا بيد المثلّث الرحمة المتروبوليت غريغوريوس. جهاد الراهب المتقدِّس صار في الدير مُضاعفًا، وغالبًا ما كان يصعد إلى المغارة التي نسك فيها البارّ داود ليصلّي هناك ساعات وساعات. وكما كانت جهاداته وصلواته تزداد كانت تزداد أيضًا نِعَم اللَّه عليه، بما فيها الرؤى الإلهيّة وظهورات القدّيسين والعجائب. بالطبع ازدادت عليه أيضًا هَجمات الشيطان، بِحِيَل وأشكال متنوّعة لا مجال لتعدادها هنا. غالبًا ما كان الشيخ يعقوب يرى ويُحادث البارّ يعقوب مؤسّس ديره، والبارّ يوحنّا الروسيّ الذي كان يكنّ له الشيخ يعقوب إكرامًا خاصًّا. أمّا في خدمته القدّاس الإلهيّ، فمعاينة الملائكة يمَجّدون الحمل الذبيح كانت شبه دائمة عنده، وقد شهد كثيرون كيف كان يتألّق بالنور وهو يخدم الأسرار الإلهيّة. في الخامس والعشرين من حزيران السنة 1975 اختاره آباء الدير رئيسًا عليهم، وبقي حاملاً هذا الصليب بِبَذلٍ واتّضاع كُلّيّيَن حتّى رقاده المُوَقَّر في الحادي والعشرين من تشرين الثاني السنة 1991.

«كيف يمكننا أن نحبّ اللَّه، إن لم نحبّ حتّى الموت هؤلاء الذين أحبَّهم اللَّه حتّى الموت؟»، كان الشيخ يعقوب يردّد دائمًا. لا بالكلام وحسب بل بالفعل كلّيًّا، إذ كان يرى كلّ قاصديه، بأعيُنهم وبقلوبهم، كيف كان يعتنق آلامهم وأحزانهم وكأنّها في جسده وروحه. هكذا كان يستمع إليهم ويُعَرِّفهم ويرشدهم ويصلّي من أجلهم، وبهذه القوّة كان يشفي أمراض النفوس والأجساد ويَرُدّ الضالّين ويُحرّر الممسوسين من الشيطان. عجائبه، في حياته وبعد رقاده، في هذه المجالات وغيرها كثيرة جدًّا. الملتجئون إليه كانوا يشتَمّون فيه «رائحة المسيح الذكيّة للَّه» (2 كورنثوس 2: 15). أمّا هو، فلم يَكُن ينسب إلى نفسه من هذه كلّها شيئًا مُعتَرِفًا، ببساطة الأطفال وعفويّتهم، بكلّ الفضل للَّه ولقدّيسيه. وكلّما ازدادت نِعَم اللَّه عليه ازداد هو تشدّدًا في الحفاظ عليها وتثميرها، أيضًا من أجل هؤلاء الذين أحبَّهم اللَّه حتّى الموت. واضعًا نُصبَ عينيه قَول السيّد المُبارَك «لأجلهم أُقَدِّس أنا ذاتي» (يوحنّا 17: 19).

لم يكن أبونا البارّ يعقوب مُتعلّمًا أو لاهوتيًّا أديبًا إذ لم يتجاوز التعليم الابتدائيّ. ولكنّه كان مُظَلّلاً بنعمة الروح القدس، النعمة التي جعلت صيّادي الجليل البُسطاء رُسُلاً ألهبوا الأرض ببشارة الخلاص. وبهذه النعمة عينها حمل أبونا البارّ يعقوب، إلى الملتجئين إليه وإلى الذين كان يخرج لرعايتهم في القرى المُجاورة والنواحي المُحيطة، السلام والفرح والتعزيات وغيرها من ثمار الروح القدس. في جلسات الإرشاد وفي سماع الاعترافات وفي العظات، كانت كلمات أبينا البارّ يعقوب دائمًا بسيطة، عَذبة ومجبولة بالمحبّة حتّى عندما كان يضطرّ إلى شيء من الصرامة والتأنيب. من فيض قلبه المحبّ تكلَّم لسانه (متّى 12: 35)، فأتت كلماته شافية الأمراض وقاهرة الشياطين، وأتت صلاته أمام العرش الإلهيّ بخورًا عذبًا مقبولاً على الدوام. n

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search