من المجد إلى الصليب
نقولا أبو مراد
من عيد التجلّي في 6 آب إلى عيد الصليب في 14 أيلول أربعون يومًا. الخروج من مصر هو الموضوع الذي أراد من نظّموا الأعياد وترتيب السنة الليتورجيّة أن يجعلوه أساسًا لفهمنا المسيرة من جبل التجلّي إلى «رفع الصليب الكريم في العالم كلّه»، ليعلّمونا أنّ اكتمال انتشال الربّ شعبه من عبوديّته لكبريائه المتمثّلة بقساوة الاستعباد لفرعون، هي في إخضاع كبريائنا وغرورنا لنحمل مع المسيح صليبه، بحيث نُستعبد للمحبّة التي أظهرها السيّد ببذله ذاته عن العالم أجمع. عيد التجلّي الذي وُضع في تاريخه الذي نعرفه في أواسط القرن السابع، كان يعيّد له قبل ذلك قبل الخميس العظيم بأربعين يومًا، ونقل إلى 6 آب لئلاّ تضيع رمزيّته أمام أهمّيّة أربعينيّة الصوم الكبير، التي جُعل للصليب ذكر فيها، قبل الخميس العظيم، في الأحد الثالث من الصوم، كيلا ينسى المتعلّمون من الخدم أنّ مسيرة الأربعين يظلّلها الصليب.
استند قارئو الكتاب ومترجموه إلى ترتيبٍ للسنة الليتورجيّة، من بين ما استندوا إليه، إلى قول لوقا، في روايته تجلّي الربّ يسوع على الجبل، عن موسى رجل الخروج، وإيليّا حامل النبوءة، إنّهما «كانا يكلّمانه على خروجه الذي كان عتيدًا أن يكمّله في أورشليم». هذه القراءة اللوقانيّة لآلام الربّ وموته ودفنه فقيامته تفيد أنّ الخلاص النهائيّ الذي أعطي للإنسان الغارق في الطغيان والكبرياء والتفاخر وإعلاء الذات، حصل حين ارتفع المسيح، السيّد والمعلّم، على الصليب. بين سيادة فرعون الفاعلة في القهر والتسلّط الظالم، وسيادة الربّ البادية في المحبّة حتّى بذل الذات، طريقٌ نحن مدعوّون إلى أن نسلكه هو خروجنا من مجدٍ نسبناه باطلاً إلى ذواتنا، إلى الصليب لكي يستعلن لا مجدنا الفارغ بل مجد الإله الحقيقيّ في كلمته إذا ما خضع لها العالم.
ويلفتنا أنّ منظّم الخدم الليتورجيّة أبرز الصليب على غير نحوٍ في اتّصاله بعيد التجلّي على خلفيّة الخروج من مصر. عدا عن كونه وضع قانون عيد الصليب - «إنّ موسى لـمّا رسم الصليب...» - قانونًا لعيد التجلّي، رابطًا بين موسى والخروج وظهور اللَّه المجيد على جبل حوريب في سيناء والصليب، فقد أدخل في الأوّل من آب عيدًا «لزيّاح الصليب الكريم» رابطًا إيّاه بتذكارٍ «للشهداء المكّابيّين السبعة ومعلّمهم أليعازر وأمّهم سلموني». وإذا ما احتسبنا عدد الأيّام من الثاني من آب وحتّى الثالث عشر من أيلول وطرحنا منها الأعياد السيّديّة، أي التجلّي (6 آب)، ورقاد مريم (15 آب)، وولادتها (8 أيلول)، يبقى عدد الأيّام بين زيّاحي الصليب في الأوّل من آب والرابع عشر من أيلول أربعين يومًا، نرتّل فيها كلّها قانون الخروج ما يؤكّد قراءتنا أعلاه، وأنّ مسيرة الأربعين يومًا يحوطها الصليب بدءًا ومنتهى.
كما أدخل واضع النظم الليتورجيّة في هذه الفترة إشاراتٍ عديدةً نظْمًا وتذكاراتٍ، لكي يقود المحتفلين معنًى ومبنًى إلى الصليب وما يتّصل به من تعاليم، أشير إلى بعضها محاولةً منّي أن أبيّن قصده وأمانته للمسيرة الكتابيّة. قلنا إنّه ربط بين زياح الصليب في الأوّل من آب وتذكار الشهداء السبعة المكّابيّين الذين قتلهم أنطيوخوس أبيفانس (باني مدينة أنطاكيّة)، الذي تقول رواية أسفار المكّابيّين إنّه دنّس هيكل أورشليم بوضعه تمثال زفس داخله في القرن الثاني قبل الميلاد. واجه الإخوة المكّابيّون السبعة الملك اليونانيّ حتّى استشهادهم الذي قرأه ناظم ترانيم العيد انتصارًا لأصحاب «الغيرة الملتهبة والعبادة الشريفة» على «شراسة المضطّهد الوحشيّة»، للطاغية اليونانيّ الذي أراد أن يحلّ في تمثال زفس الذي يمجّد قوّة الإنسان محلّ شريعة الربّ الداعية إلى المحبّة، والتي أعلنت بعد الخروج من العبوديّة للطاغية المصريّ. قال الشهداء، «نحن، يا أنطيوخوس، لنا ملك واحدٌ هو اللَّه. منه مبدؤنا وإليه مصيرنا. عالمنا أعلى شأنًا من هذا العالم المنظور وأثبت منه. ومدينتنا هي أورشليم الحصينة التي لا تزول ولا تفنى» (ترنيمة ذكصا الغروب). من جهة عندنا طغيان الظالم، ومن جهة أخرى ارتفاع الشهداء الذين قتلتهم وحشيّة الظلم البشريّ إلى العلويّات التي أعدّها اللَّه لهم إلى ما لا نهاية. الربط بين تذكار الشهداء المكّابيّين وزيّاح الصليب غايته أن يعلّم المحتفل أنّ الصليب الذي به شقّ موسى البحر مغرقًا فرعون الظالم، ورسمه أليشع ويعقوب بركةً (قطع الأوديّة الثامنة من قانون الصليب)، هو الذي به سقط أنطيوخوس بشهادة الذين قطعت أوصالهم إذ أبوا أن يخونوا معنى الصليب في كلمة الشريعة.
مقابل تدنيس أنطيوخوس للهيكل والتطهير الذي حصل بدم الشهداء للعبادة الحقّ من وساخة عبادة الذات والقوّة البشريّتين، وضع الناظم الليتورجيّ في اليوم الأربعين بعد الأوّل من آب، أي 13 أيلول، تذكار «تجديد كنيسة القيامة» قارنًا إيّاه بتذكار اكتشاف الصليب على يد «الملك الحسن العبادة» (ترنيمة كانين أبوستيخن الغروب)، ليقيم تضادًّا بين الملك القاتل الذي فرض عبادة الذات البشريّة بتمثال زفس، و«الملك الحسن العبادة» الذي «أعاد» الصليب إلى قلب العبادة المسيحيّة، ليتذكّر المحتفلون أنّ غايتهم في الحياة لا يمكن أن تكون إلاّ الصليب. في أنطيوخوس من جهة، والملك الحسن العبادة من جهة أخرى، يضع الناظم أمامنا صورتين وحالتين داعيًا إيّانا إلى الخروج من الأولى والاتّجاه نحو الثانية. أمّا هذا الانتقال المدعوّون نحن إليه في المسيرة بين واقعنا المتمثّل في صورة أنطيوخوس، إلى مرتجى هو الصليب، أساس «تدشين وتجديد» العبادة في كنيسة القيامة، أي في الكنيسة المؤمنة بموت الربّ وقيامته أساسًا لحياة جديدة، فيضع الناظم أسّسه في الثاني من آب، أوّل الأربعين، في تذكار إستفانوس، شهيد المسيح الأوّل.
في إستفانوس تتقاطع المواضيع التي يريد الناظم أن يبرزها. اسمه يعني «التاج» أو «الإكليل» وفيه إشارة إلى الملكيّة. غير أنّ قصّته في أعمال الرسل (أعمال 6 و7) تعلّمنا أنّه انتخب من بين السبعة ليخدم الفقراء الذين فصلهم «العبرانيّون»، بشخص الأرامل اليونانيّات، عن «الخدمة اليوميّة» (أعمال 6: 1)، أي عن الاشتراك في «الصلوات وتعليم الرسل وكسر الخبز» (أعمال 2: 42). هذا الفصل الذي بناه العبرانيّون على التمييز بين أنفسهم كطاهرين وبين اليونانيّات لاعتقادهم أنّهنّ مدنّساتٌ يضاهي في خطورته تدنيس أنطيوخوس لعبادة الهيكل؛ لـمّا وضع أنطيوخوس تمثال الإله اليونانيّ في الهيكل أراد أن يمنع الأمناء لشريعة الربّ من العبادة الحقّ بإرغامهم على الخضوع للذات البشريّة المؤلّهة، ولـمّا جعل العبرانيّون ممّن قبلوا الإنجيل، في أعمال الرسل، شرط «الطهارة»، كما يفهمونه هم في حرفيّة قاتلة، أساسًا للاشتراك في الصلوات وتعليم الرسل وكسر الخبز، منعوا من كان من خارج أوساطهم من الوصول إلى الكلمة الإلهيّة، مغتصبين حقًّا إلهيًّا ليس لهم.
غير أنّ لوقا، كاتب الأعمال، وصاحب التعليم عن الخروج أساسًا لمسيرة المؤمنين، قلب الأدوار بين أسفار المكّابيّين وسفر أعمال الرسل؛ الملك اليونانيّ الظالم في المكّابيّين يقابله العبرانيّون الرافضون اشتراك الأرامل اليونانيّات في العبادة. والإخوة السبعة المكّابيّون الشهداء، يقابلهم الرجال اليونانيّون السبعة الذين انتخبوا ليخدموا الفقراء من العبرانيّين وغير العبرانيّين. الملك الظالم يحوّله لوقا، في إستفانوس الشهيد، إلى ملك خادمٍ. وأنطاكية، المدينة التي بناها أنطيوخوس الطاغية، يحوّلها لوقا في أعمال الرسل، إلى مدينة تحتضن كلمة الربّ، لا بل تحتضنها كلمة الربّ، يلتقي فيها اليونانيّون والعبرانيّون على سماع الكلمة وخدمة الفقراء إلى أيّ مشرب انتموا (أعمال 11: 19– 30).
يقول لوقا إنّ استشهاد إستفانوس هو الذي أوصل كلمة البشارة إلى كلّ من كانوا في أنطاكية، جاعلاً بهذا، في رمزيّة إستفانوس واسمه أساسًا لقيام المدينة حول كلمة اللَّه، بدلاً من تأسيسها على قاعدة القهر والظلم وعبادة الذات. تُسقط أنطاكيّة اليونانيّين المستبدّين، وتبقى إلى الأبد أنطاكية إستفانوس الشهيد شاهدة على الأمانة للربّ إلى الأبد ومثالاً لكلّ مدينة خارجةٍ من ذاتها إلى محبّة الآخر. هذه وظيفة أنطاكية في سفر الأعمال حيث دُعي التلاميذ «تلاميذ أوّلاً» (أعمال 11: 26)، أي حين أدركوا أنّ التلمذة للمسيح لا تتحقّق في التمييز والفصل والظلم والاستعلاء، بل في محبّة الآخرين حتّى الموت، موت إستفانوس، الذي يشبه موت المسيح.
وكان لوقا وضع على لسان إستفانوس خطبةً ألقاها أمام المجمع الظالم الذي اتّهمه بالكفر والجحود، كما اتّهم قبله الأنبياء ويسوع المسيح نفسه، لأنّه علّم أنّ الهيكل لا يمكن أن يقف شاهدًا على أنانيّة البشر بل على مركزيّة الكلمة الإلهيّة المحيية. يذكّر إستفانوس، في خطبته، مضطّهدي الرسل الذين يحاولون قمع الإيمان بالصليب، بأنّ الخروج إنّما هو أساس المسيرة التي أراد اللَّه لإبراهيم أن يسيرها، ومن بعده كلّ من تسمّوا باسمه. غاية الخروج في خطبة إستفانوس عبادة اللَّه في البرّيّة في «كلماته المحيية» التي نقلها عنه موسى إلى الكنيسة جمعاء (أعمال 7: 38). غير أنّ العبرانيّين بدلاً من الأمانة للربّ وكلماته، فعلوا ما فعله أنطيوخوس، فجعلوا في الهيكل تماثيل آلهة غريبة تمثّل غرورهم وشهواتهم (أعمال 7: 41– 43). ويسقط الهيكل. تبقى عبادة الربّ الذي أعلن في «خيمته» شريعته الثابتة إلى الدهر. يسقط الهيكل ويموت إستفانوس شهيدًا. ولكن، بشهادته وعلى أساسها، تخرج الكلمة من سجن أراده لها المستكبرون إلى أمداء واسعة لا تحدّها حتّى أقاصي الأرض، فتملأ الأرض والسماء. ومع خروج الكلمة، يدعو إستفانوس إلى الخروج كلّ من يريد أن يتّبع الكلمة. فيخرج الرسل من أورشليم. ويخرج شاول من ظلمه وقتله واضطهاده (أعمال 9)، ويخرج بطرس ومن معه من الإخوة في أورشليم من رفضهم الآخر (أعمال 10– 11: 18)، فيدخل بيت كرنيليوس الدنس في نظره، والمقدّس في نظر الربّ. تلك هي الأمثولة التي يريد ناظم الخدم أن ينقلها إلينا في معنى تجديد كنيسة القيامة في 13 أيلول، الأمر الذي يؤكّده أنّه جعل في اليوم عينه تذكارًا لكرنيليوس نفسه الذي أتى إليه بطرس حين علّمه الربّ ألاّ يرفض غيره ممّن اختارهم الربّ. بين إستفانوس (2 آب) وتجديد كنيسة القيامة وتذكار قصّة كرنيليوس (13 أيلول)، مسيرة أربعين يومًا، تخرجنا، إن سرنا فيها، من أنانيّتنا وتعلّمنا أنّ الكنيسة المؤمنة بالقيامة ينبغي أن تبقى في تجدّد دائمٍ، وأنّ هذا التجدّد أساسه ومحوره وقاعدته صليب الربّ، أي تعرّينا من كبريائنا وأنانيّتنا وقوميّتنا وطائفيّتنا واستعلائنا لنلبث مع المسيح مصلوبين، عراة من كلّ شيء إلاّ من محبّة على مثال محبّته، وخدمة تشبه خدمته.
في المسيرة بين زيّاح الصليب ورفع الصليب، بين تدنيس الهيكل بشرّ الإنسان وتجديد الكنيسة بموت الشرّ بالصليب، يأتي تجلّي الربّ على جبل ثابور، الذي لم يفهمه الرسل إلاّ حين رأوا المسيح معلّقًا على الصليب. ذلك المجد الأزليّ الذي يليق باللاهوت ظهر في المعلّم معلّقًا على الصليب. يأتي عيد التجلّي في سياق مسيرة الصليب لنتعلّم منه أنّنا مدعوّون إلى أن نسقط في أنفسنا أنطيوخس الطاغية (1 آب)، ورؤساء الكهنة الرافضين روح اللَّه (2 آب)، ولاون الجاحد (7 آب)، وهيرودس قاتل المعمدان (29 آب)، وكلّ من سحق شهيدًا من الشهداء الكثيرين الذين تملأ تذكاراتهم معظم الأيّام الأربعين بين 1 آب و 13 أيلول، وبين 6 آب و14 أيلول، لتقوم فينا شهادة حقّ للمسيح، حقّ نكون فيه كإستفانوس، والمكّابيّين، والمعمدان، أمناء لا لشيء إلاّ لكلمة اللَّه وحدها. أمام استعلان مجد المعلّم في التجلّي ينبغي أن نسقط مجدنا، أن ننطرح كالثلاثة التلاميذ على الأرض، مطرقين وجوهنا عن كبريائنا، عن مجدنا الفارغ، عن اعتدادنا بذواتنا، وعن فساد بشريّتنا البارز بطرائق شتّى قد نعيها أو لا نعيها، كيلا نفهم المجد إلاّ مجيئًا إلى الصليب وسجودًا أمامه. هكذا نكون كمريم، حاملين الكلمة الحقّ. نولد ونرقد بين الصليب والصليب. أنطيوخس مثال. الملك الحسن العبادة مثال. تدنيس الهيكل مثال. وتجديد كنيسة القيامة مثال. كلّها علامات جعلها ناظم الخدم في يوميّاتنا، كما جعلها الكتاب الإلهيّ أمام أعيننا. ماذا نختار وكيف نعيش. تلك هي المسألة. يبقى أنّ الدعوة واضحة. لا تجديد للكنيسة إلاّ إذا سقطت فيها وجوه الطغاة فينا، وارتفع الصليب وحده، صليب الربّ، نحمله على جباهنا وأكتافنا إلى أن يصير اللَّه الكلّ في الكلّ، ويتحقّق خروجنا إلى برّيّة اللَّه المستحيلة رياضًا وواحات يربض فيها إلى الأبد الراكعون أمام عرش الخروف المذبوح.n