أخي، أبونا جورج
الأب بولس (وهبه)[1]
سألت نفسي مرّة ما الذي يجمعني بأخي أبونا جورج؟ أكيد أنّ الكهنوت هو الرابط الأكبر، لكنّ الجواب يتضمّن أكثر من ذلك. فالمقاربة الفكريّة لكلّ ما يتعلّق بالكنيسة وبربّ الكنيسة عنده (وعندي) ليست شأنًا مفصولاً عن الالتزام الروحيّ والانفتاح الرحب على عمل الروح القدس في حركة الفكر وفي الطراوات والجمالات الظاهرة في الثقافات والتراثات الأخرى. كان موطَّدًا في كنيستنا الأرثوذكسيّة كالسنديانة العتيقة، لكنّه بسبب هذا الانغراس كان يمتدّ كأغصانها ليعانق أغصان الأشجار (الثقافات والتراثات) الأخرى بتلاقُح لا مساومة فيه ولكن، في الوقت عينه، لا مشاوفة ولا تقبيح أو ازدراء. ولهذا كان وسيظلّ ممتدًّا ومغروسًا في الوقت ذاته، حاملاً أثمارًا سوف ينهل منها الكثيرون.
عند البعض، كثرة الثقافة تؤدّي إلى العجرفة. عنده كان تراكمها فيه يُكثر من تآلف الطيّبات في نفسه وشخصه، فينحني أمام كلّ معلومة تأتيه لتثريه ولتجعله يُعمل الفكر في جدّتها وجديدها. أكثر ما أتذكّر منه هو ابتسامته التي كانت معجونة دائمًا بشكر عميق ومتواضع لله. لم يستحِ من قول رأيه بوضوح العلماء ولكن بمحبّة المسيح، مصوّبًا ما كان يراه من نتوء فكريّ أو اعوجاج ثقافيّ/حضاريّ، شاهدًا أبدًا للحقّ كما كان يعقله ويعيشه. دفع كثيرًا ثمن مواقفه، فجابه المنتقدين بوداعة يسوع معجونة بشجاعة المعمدان. هذا كلّه، عبر هذه الابتسامة والقدرة على عدم الغضب، شالحًا نفسه في أحضان ربّه الذي نذر نفسه لخدمته، كاهنًا وكاتبًا ومعلّمًا وأبًا وزوجًا ومرشدًا وصديقًا.
التقيته مرّة في مناسبة تعزية ففرحت لمجالسته. كان المرض قد بدأ يكشّر عن أنيابه، وهو يتحدّث عنه برضى المؤمن وبعزيمته. بالفعل كنت أفرح في كلّ لقاء معه، ولكنّنا في ذلك اللقاء فرحنا الواحد بالآخر كالأطفال، ففيما كنّا نخرج من قاعة التعزية في أحد الفنادق دعانا صاحب المطعم المجاور، وأنا أعرفه جيّدًا، إلى تناول بعض الحلوى الخاصّة بالمطعم. وبعد ممانعة طفيفة بسبب مرض السكّري، ذقنا ما قدّم لنا وكان كثيرًا. رأيته كالطفل يفرح بالآن وبما يقدّمه الآن. فجلسنا ساعة من العمر كانت الحلوى المادّيّة مؤشّرًا على ما نختزن من الحلاوات وطيّبات الصداقة والأخوّة.
سيقول كثيرون راح أبونا جورج بكّير. أنا لا أعلّق على ما هو افتراضيّ أو اعتراضيّ. لكنّني أقول إنّ ما غرسه سيستمرّ. وهو ترك الأثر الكبير في نفوس ومنتديات كثيرة كثيرة. أبونا جورج أسّس مدرسة في المقاربة تدمج الروحيّ بالكتابيّ والكنسيّ والفكريّ والثقافيّ والانفتاحيّ، وهو المحبّ والممتدّ، الذي سيظلّ فوح عطرها دفّاقًا. في كثير من الأحيان سبح عكس التيّار، ما دعا بالكثيرين إلى تصنيفه ومهاجمته وتقبيح ما كتب وقال. لكن من عرفه هو أصدق شاهد على حلاوة روحه وصوابيّة مقارباته. أرشد الكثيرين روحيًّا وكنسيًّا وثقافيًّا، وفضح عطب وهشاشة من يختبئون وراء الأصنام الفكريّة تحت ستارات ظاهرها فقط يبدو مشروعًا.
كمّيّة الأشخاص الذين تقاطروا إلى الصلاة من أجل راحة نفسه، والكمّ الهائل الذي كتب عنه، وبعضه على يافطات نادرة في المنطقة التي خدم، شاهدة على أنّ ما أسّسه وغرسه وفعله كان على الكثير من الصواب والمشروعيّة. هذا إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على أنّ من سمح لنفسه بأن ينفتح على الحقّ وأن يعرف الحقّ، يحرّره الحقّ- وكلمة عرف في الكتاب المقدّس تعني "أقام علاقة مع". أبونا جورج أقام علاقة مع الربّ الكلمة، فتكلّم فيه وعبره، وكان كلامه تعبيرًا عن هذه العلاقة وذلك الفرح الناتج منها، والمتعالي على كلّ الجروحات والمهاجمات والآلام والأحزان لأنّ الربّ وعدنا بأنّ فرحنا لن ينزع منّا.
أكتب عنه هذه الكلمات بعد أيّام من تعييدنا صعود الربّ لإجلاسنا فيه ومعه عن يمين أبيه. هناك هو أبونا جورج. وفيما نستعدّ لاستدعاء الروح القدس في يوم العنصرة، نصلّي إليه أن يلفّ أبونا جورج بفرحه وحنانه وأن يلفحه بدفء محبّته، لكي يصلّي لنا في لدن أبي الأنوار، عسى بعض ما كان عليه يظلّ فاعلاً فينا، لنكون، كما كان، شاهدين بالكلمة والفعل والفكر والحبّ.
لن تخفّف الأيّام من حبّي لك، مع محبّتي لأختي ماغي ولبناته الثلاث الحبيبات، حاملات المشعل لدرب آتٍ، يشعّ بالنور والطيّبات.
[1] - كاهن رعيّة رئيس الملائكة غفرائيل، المزرعة بيروت.