2017

10. الحركة في يوبيلها الماسيّ: وعد بأنطاكيا متجدّدة - غسّان الحاج عبيد – العدد الثاني سنة 2017

 

الحركة في يوبيلها الماسيّ: وعد بأنطاكيا متجدّدة

 

 غسّان الحاج  عبيد

 

 

ينبغي لك، قارئي، أن تكون عرفت الحركة من الداخل، أو، أقلّه، أن تكون قرأت عنها أو من أدبيّاتها الكثير، لتتيقّن أنّ ما ستقرأه في هذه العجالة لا مغالاة فيه، وهو شهادة للحقّ وللتاريخ أنقلها وأترك للتاريخ أن يحكم فيها. هذا، طبعًا، إذا سلّمنا جدلاً بأنّ التاريخ منصف في حكمه، مع أنّه، في كثير من الأحوال أو في معظمها، ليس كذلك.

أمّا بعد، فثمّة سؤال يطرح ذاته هنا: بعد كلّ الذي قيل في هذه الحركة، حتّى اليوم، وكلّ الذي كُتب - ويشكّل تراثًا غنيًّا جدًّا - ماذا يبقى ليقال؟ أوَلم يُستنفد الكلام بعد؟ لا، طبعًا، لم يُستنفد الكلام ولن يُستنفد، ما دام الروح حيًّا في كنيسته وناطقًا فيها؛ وإنّه لكذلك على الدوام لأنّه روح الحياة المتدفّقة أبدًا من قلب اللَّه. أجل، لم يُستنفد الكلام ولن، ويبقى الكثير ليقال، ومن هذا الكثيرأنّه ينبغي لحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة أن تبقى وتستمرّ. وإنّي لأزعم أنّ استمرارها، بقدر ما هو مسؤوليّة ملقاة على عاتق أعضائها - وهذا أمر مفروغ منه، وهم بهذه المسؤوليّة ناهضون إذا عرفوا كيف لا »يهملون محبّتهم الأولى« (رؤيا 2: 4) وكيف يثبتون فيها - هو أيضًا مسؤوليّة كبيرة ملقاة على عاتق الرئاسة الروحيّة التي ننتظر منها، كما باركت انطلاقة الحركة في أربعينيّات القرن المنصرم، أن تبارك استمرارها، وإنّها لفاعلة إذا عرفت أن ترعاها وتوفّر لها الفرص المؤاتية لتأدية خدمتها، بوصفها عطيّة الروح القدس لكنيسته وفعله فيها. فقد ولدت من رحم الروح الإلهيّ وعدًا بأنطاكية متجدّدة، وما برحت كذلك، وستبقى. من هنا أنّ النظر إلى الحركة باعتبار أخطاء أعضائها وخطيئاتهم، واختزالها بهذه الأخطاء والخطايا، يسيء إليها لأنّ فيه كثيرًا من التجنّي والجحود والتنكّر للتاريخ. لإنصاف الحركة ينبغي النظر إليها بمعزل عن هشاشة أعضائها وخزفيّتهم ومعطوبيّتهم، والتعاطي معها باعتبار أنّها عطيّة الروح لأنطاكية وأنّها، بهذه الصفة، تبقى ضرورة للكنيسة الأنطاكيّة. إنّ خبرة خمس وسبعين سنة من العمل النهضويّ أكثر من كافية للتدليل على هذه الحقيقة وإثباتها. والحقيقة هي أنّه، منذ أربعينيّات القرن الماضي إلى اليوم، لا تصحّ قراءة هذه الحقبة الأنطاكيّة إلاّ في قاموس حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة وسجلّها. طيلة هذه الحقبة كانت هذه الحركة أشبه بمدرسة انتسب إليها كثيرون، فمنهم من ثبت فيها وجلّى ومنهم من سقط على الطريق، ولكنّ الأكيد أنّ أحدًا من هؤلاء جميعًا لم يمسّه هذا التيّار إلاّ وترك فيه بصمة هي أشبه بالوشم في الجسد. هذا ليس تمجيدًا للحركة، هذا تأريخ. والحقيقة أيضًا هي أنّه لا بديل من هذه الحركة إلاّ حركة من نسيجها، من رؤيتها وفكرها، من روحها وروحيّتها، حركة مولودة من رحمها وتحمل في ذاتها العناصر التكوينيّة عينها. أي لا بديل من الحركة إلاّ الحركة ذاتها.

إذًا ينبغي لهذه الحركة أن تبقى وتستمرّ، وإنّما ذلك للاعتبارات عينها التي استدعت بزوغها مع فجر مبارك من آذار 1942. ولأنّ هذه الاعتبارات كثيرة، ويضيق بها الحيّز المخصّص لهذا المقال، أكتفي منها بالتالي:

- أوّلاً: مركزيّة المسيح في حياة الشباب

في وقت بدا فيه مستحيلاً، أو شبه مستحيل، ربط الشباب بكنيستهم، أو جعلهم يكترثون لها ولقضاياها؛ في وقت بدا فيه أنّ الشباب عن كنيستهم وعن مسيحها لاهون، لأنّ كنيستهم لم تكن تحرّك فيهم ساكنًا لا على مستوى العقل ولا على مستوى القلب، ولم يكن فيها ما يشدّهم إليها، وكانوا ينظرون إليها على أنّها، في أفضل الأحوال، كنيسة الكهول والشيوخ الذين بات الزمان وراءهم وباتوا يسيرون إلى حتفهم بأقدام متثاقلة ويحتاجون، تاليًا، إلى توبة يفتدون بها ما تبقّى من زمان حياتهم، قبل أن يدركهم الاستحقاق الرهيب وقبل أن يمثلوا أمام منبر الدينونة، الذي عنده سيقدّمون الحساب لربّ الحساب؛ في وقت بدا فيه للشباب أنّ حدود هذه الدنيا حدودهم فبات اهتمامهم منصبًّا كلّه على التمتّع الوقتيّ بما تغريهم به، »واقتناص اللذّات كلّ مناهم« (جبرائيل سعادة في نشيد رجوع الخاطئ)، لا هاجس عندهم ولا شاغل سوى ما يشبعون به نزواتهم العابرة، ولا أفق عندهم مفتوحًا على المعاني العظيمة يروون بها نفوسًًا »عطشى إلى الكلا« (حسيب غالب في نشيد مركز طرابلس »يا شبابًا أرثوذكسيًّا«) الحيّ النازل من فوق؛ في هذا الوقت بالذّات، وبما يشبه الأعجوبة، نجحت الحركة في أن تستقطب للكنيسة شبيبتها وأن تجعل الشبيبة الأنطاكيّة تعيد ترتيب أولويّاتها. بفضل الحركة غدت الكنيسة، بالنسبة إلى الشباب، هاجسهم الأوّل بعدما كانت قبلاً مرميّة على قارعات دروبهم وفي زوايا إهمالهم، وغدا المسيح جرحهم كما حدّثني مرّة أحد الإخوة المخضرمين الأصلاء - وكان، قبلاً، نسيًّا منسيًّا يذكرونه، في أفضل الأحوال، ذكرًا لكنّهم لا يتحسّسونه ربًّا لهم وإلهًا »به يحيون ويتحرّكون ويوجدون« (أعمال 17: 28). فضل الحركة أنّها جعلت المسيح شغف الشباب الأوحد والهمّ المركزيّ في حياتهم. إنّ في هذا لسرًّا لا يدرك بالمنطق البشريّ عبّر عنه جورج خضر (المطران حاليًّا) في شرحه المبادئ الحركيّة حيث قال: »إنّ في هذه الحركة شيئًا لا يدرك إلاّ كما يُدرك السرّ«.

ثانيًا: رجاء الشباب بكنيستهم

يبدو جليًّا، لمن يواكب مسيرة الكنيسة الأنطاكيّة، أنّ انتساب الشباب إلى صفوف الحركة يتزايد باطّراد، وعلى نحو لافت وله دلالاته. من هذه الدلالات أنّ الشبيبة الأنطاكيّة شغوفة برؤية كنيسة رسوليّة تشبهها في تجدّدها، فيما هي راسخة في »الحق الحاضر« (2 بطرس 1: 12) ومتأصّلة في تراثها ورسوليّتها. الشبيبة الأنطاكيّة تتطلّع إلى هكذا كنيسة وإليها تصبو، وهي رجاؤها. إنّ كنيسة لا تتحسّس نبض شبابها، ولا توقّع حركتها على إيقاعهم، لهي كنيسة متحفيّة لا حياة فيها. طبعًا ليس مطلوبًا من الكنيسة مسايرة شبابها إذا كان المراد بالمسايرة المساومة على ما هو حقّ في الكنيسة وأصيل وثابت، أي إذا كانت كلفة المسايرة الانحراف عن جادّة الرأي القويم. لا، إنّما المسايرة المطلوبة هنا، أن تواكب الكنيسة شبابها في مسيرتهم، ليتسنّى لها، في المواكبة، أن تكون معهم في توثّباتهم وتطلّعاتهم، في آمالهم وآلامهم، في نجاحاتهم إذا نجحوا وإخفاقاتهم إذا أخفقوا. إنّ الشبيبة الأنطاكيّة بحاجة ماسّّة إلى كنيسة حاضرة في حياتها، تعي هواجسها وترعاها لتوظّفها في خدمة الكلمة. في الرسالة الأولى من رسائل يوحنّا يخاطب الرسول الشبّان قائلاً: »كتبت إليكم أيّها الشباب لأنّكم أقوياء، وأنّ كلام اللَّه مقيم فيكم، وأنّكم قهرتم الشرّير« (1يوحنّا 2: 14). أجل، إنّ لدى الشباب طاقات عظيـمة مؤهّـلة، إذا حظـيت بمـن يتعهّدها، أن تبدع في خدمة الكلمة العظائم، ومن هذه العظائم مخاطبة العقل المعاصر.

ثالثًا: مخاطبة العقل المعاصر

لقد علّمنا أستاذنا الكبير كوستي بندلي، وهو الأرثوذكسيّ الأنطاكيّ العربيّ الرائد في محاورة الفكر المعاصر بفكر المسيح، أنّ الكنيسة مدعوّة إلى التجدّد الدائم وإلى أن تعيد، باستمرار، صياغة نفسها، وذلك بطاقات التجدّد الكامنة فيها أصلاً، في تكوينها، بقوّة مبدعها »الجالس على العرش والذي يصنع كلّ شيء جديدًا« (رؤيا 21: 5). لذلك، نحن لا ننكر ما قاله الأوّلون تكرارًا، ولا نكتفي بإعادة صياغته بقوالب جديدة، واهمين أنّنا بهذا نقول جديدًا. لا، بل نحن نبني على ما قاله الأوّلون إذ لا يضع أحد أساسًا غير الموضوع - لنبدع قولاً جديدًا وفكرًا جديدًا، راسخًا في الأصالة ولكن قادرًا على ملامسة العقل المعاصر ومخاطبته، بحيث يكتشف هذا العقل، بعناية الربّ وحكمته، أنّ كلمة اللَّه تخاطبه وأنّ نور المسيح يدخل عقله وقلبه من أبواب ليست بالضرورة الأبواب التقليديّة التي ألفناها. فللَّه دروبه إلى عقول البشر وقلوبهم، وله أساليبه في طرْق أبوابهم وانتظار الجواب. أمّا نحن، فلنا، فقط، أن نرمي الشبكة.

هذه جدّة نحن قادرون عليها لأنّنا ورثة مدرسة أنطاكيّة كانت، دومًا، في هذا المجال رائدة. وإنّي لأزعم أنّ هذه الجدّة هي ضالّة الشبيبة الأنطاكيّة، وقد وجدت هذه الشبيبة في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة ضالّتها هذه.

رابعًا: الوحدة الأنطاكيّة

من الإنجازات العظيمة التي حقّقتها الحركة في مسيرتها أنّها كانت، بالنسبة إلى الشبيبة الأنطاكيّة، العروة الوثقى. لقد خلقت بين الشبيبة الأنطاكيّة، رغم توزّعها وانتشارها في المدى الأنطاكيّ الواسع، لُحمة قويّة تجلّت، على الأرض، وحدة في الرؤية والفكر، وحدة في السلوك والعمل، ثمّ - وهذا هو الأهمّ - وحدة في حسن العبادة والسجود. ففي وقت بدا فيه كلّ مسعى وحدويّ عسيرًا، بل وشبه ميؤوس منه، في محيط أنطاكيّ تنخر جغرافيّته السياسيّة وجغرافيّته المجتمعيّة وجغرافيّته الديموغرافيّة الانقسامات الحادّة على أنواعها، سياسيًّا وطائفيًّا ومذهبيًّا وعرقيًّا، في هذا الوقت بالذّات نجحت الحركة في أن تكون حركة نهضويّة عابرة للأبرشيّات، وأن تنشئ بين الشبيبة الأنطاكيّة رباطًا لا ينفكّ، وحدة متينة غير قابلة للتزعزع ولا للانكسار، وحدة باتت، مع الأيّام، نموذج الوحدة الأنطاكيّة ورمزها. وإذا كانت هذه الوحدة قد صمدت رغم كلّ التجارب والمحن، وهي صامدة، فلأنّ عنصرها ليس من هذه الأرض ولا من هشاشتها، لكنّه من فوق، من السماء. ولعلّ المفارقة التي تجدر الإشارة إليها في السياق، ولا ينتبه إليها إلاّ القليلون، أنّ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، بقدر ما هي حركة عابرة للأبرشيّات وعامل الوحدة الأساس في ما بينها، هي، بآن واحـد، عامـل الوحـدة الأسـاس داخـليًّا، فـي كلّ أبرشيّة على حدة. لأجل ذلك، أي لأجل أن تقوم هذه الوحدة الأنطاكيّة وتزداد رسوخًا وصلابة، ينبغي للحركة أن تبقى وتستمرّ.

هكذا خبرتُ الحركة. وأنا اليوم أشهد لما خبرته وتعلّمته وأيقنت به، وعشته مع الإخوة في كنيسة الربّ. ولكن، لا بدّ لي من كلمة أخيرة أقولها، اليوم بالذّات، لئلاّ يظنّ أحد أنّنا بتنا في نعيم، ولئلاّ تغدو الحركة مجرّد ذكرى، بل تبقى فعلاً حيًّا: إنّ المشهد الكنسيّ العامّ، رغم الإنجازات »النهضويّة« التي تحقّقت، والبادية للمراقب بوضوح، ولا مجال هنا لتعدادها، ليس اليوم أفضل بكثير منه سابقًا. فالجماعة الكنسيّة تحيا، اليوم، وسط ظروف كنسيّة دقيقة جدًّا، بل ومحزنة جدًّا أحيانًا، تجعل الحالة الكنسيّة، في مطارح عدّة، أكثر هشاشة وتفكّكًا منها سابقًا. وإذا كنّا نرى أنّ هذا التيّار هو، فعلاً، من عمل الروح القدس، فينبغي لنا أن ندرك مسؤوليّتنا، فمسؤوليّتنا، وقد تحقّق ما تحقّق، باتت مضاعفة - ونستدرك الأمر: أوّلاً، لنثمر ما تحقّق ونضاعفه، وثانيًا لنفعّل الخدمة. ولهذا أودّ التذكير ببعض الأمور:

ضرورة أن نعيد قراءة مسيرتنا قراءة نقديّة نقف فيها على أخطائنا وخطايانا، ونرى أين أفلحنا وأين قصّرنا، وما الذي علينا تصحيحه.

ضرورة أن نرسم خطّة واضحة المعالم لوضع عمليّة التصحيح هذه موضع التنفيذ.

ضرورة أن نقلع عن الاهتمام بالعدد، أي بالكمّ، على حساب النوع، أي أن يكون اهتمامنا مركّزًا على الانتشار العموديّ، في العمق، أكثر منه على الأفقيّ.

ضرورة أن نركّز، ومن دون هوادة، على دراسة الكتاب المقدّس لنجعله محور حياتنا، وعلى عيش التقليد الرسوليّ، وقد كانت الحركة في الاثنين مدرسة رائدة وعليهما قامت.

ضرورة أن نعود إلى الدراسات المعمّقة بحيث نكون أوّل من يقترح على الرئاسة الروحيّة (الإدارة الكنسيّة) الأفكار الجديدة والمشاريع الجديدة المستوحاة من خبرة الكنيسة الجامعة، ولا سيّما منها تلك التي تطرق المشاكل أو المسائل المعاصرة.

أخي القارئ، أنت، حركيًّا، لا تكتب عن الحركة؛ أنت تكتب الحركة. تكتبها كما تكتب سيرتك الذاتيّة، بعدما باتت هي سيرتك. هذا ما حاولته في هذه العجالة، فأرجو أن أكون وفّقت.l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search