مع الأمين العامّ فادي نصر
لولو صيبعة
من عضو متعب في فرقة إلى مسؤول متعب، أمين عامّ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، المهندس فادي نصر، لم تهمّه المناصب يومًا ولا الألقاب. همّه أن يكون خادمًا على حسب قلب الربّ، وأن يمشي مع الناس على دروب القداسة، الذين قادوه منهم على دروب المحبّة التي تتجلّى في كنيسة يسوع، والذين بات هو يسهم في قيادتهم. بعد خمس وسبعين عامًا على نشأة الحركة، كيف يرى الأمين العامّ فادي نصر الحركة ومبادئها. هذا ما سيجيبنا عنه في المقابلة التالية.
- المبادئ الحركيّة هل هي اليوم مطابقة للعصر، أم تراها بحاجة إلى تعديلٍ ما؟
المبادئ اليوم مطابقة لهذا العصر ولا تحتاج إلى تعديل. لكن، كما في كلّ جيل، تفترض أن نقدّم أفكارًا جديدةً تظهرها، أي تظهر المبادئ، على ما هي عليه، وتظهر، تاليًا، ما تصبو إليه. فلنأخذ، مثلاً، المبدأ الأوّل الذي تدعو الحركة فيه سائر أبناء الكنيسة إلى النهضة على المستويات كافّة، دينيّة وأخلاقيّة واجتماعيّة وثقافيّة. بالنسبة إلى النهضة الثقافيّة مثلاً، نلاحظ أنّه، عند مطلع القرن العشرين، لم تكن هناك ثقافة أنطاكيّة أرثوذكسيّة كنسيّة معاصرة ما خلا البعض القليل. أمّا اليوم، فالوضع يختلف. اليوم، هناك عديد من الكتّاب والموادّ. وهذا لا بدّ من أن يقود إلى تحرّك ثقافيّ اجتماعيّ خلاّق كما مع المؤلّف الروسيّ فيودور دوستويفسكي الذي، بكتاباته، ترك بصمةً على جيل كامل من المفكّرين واللاهوتيّين الروس الذين جاؤوا بعده وتأثّروا به. وطبعًا، اليوم هناك بعض من تأثّر بسيادة المطران جورج (خضر) والأخ كوستي بندلي وآخرين، أي الحركة الثقافيّة التي نشأت في القرن العشرين. وهذا ينتظر أن يعمَّم أكثر وأكثر في داخل الكنيسة وخارجها. ولا بدّ هنا من إطلاق دعوة إلى كلّ من يرى في نفسه القدرة على كتابة قصّة أو قصيدة ملتزمة تغني التراث الإنسانيّ، أو بحث دينيّ خلاّق يستلهم التراث، ولكن يطرح مقاربةً جديدةً لأمور هذا الزمن كالهجرة وتثبيت الشباب في أرضهم، والإجابة عن تساؤلاتهم والمشاكل الاجتماعيّة كالفقر وشؤون المرأة والإدمان وأخلاقيّات علم الحياة. هذا يدفعنا إلى إطلاق المبدأ الثالث الذي يشدّد على الثقافة التي تستوحي عناصرها من روح الكنيسة، وعلى دور الكنيسة في العالم التي عليها أن تشارك في صوغ حضارته وتطويرها عبر تطوير الفنّ والفكر والأدب وسكبها في قالب أرثوذكسيّ مشعّ، على غرار قول دوستويفسكي الذي اعتبر أنّ الجمال سوف ينقذ العالم. هذه المقولة، كما نعلم، صاغها الأب صفروني في صلوات وكتابات عديدة، وكان يقصد أنّ العالم خليقة اللَّه القدير جميل، ولكن لا يوجد أجمل من الإنسان، الإنسان الحقيقيّ وابن اللَّه. والمقصود بالجمال الإنسان المتقدّس الذي يدفعه اللَّه ليسهم في خلاص العالم. وأعتقد أنّ الأب إلياس (مرقص)، نفعنا اللَّه بذكره، بطريقة عيشه وبساطتها وحبّه للجمال، لم يكن بعيدًا عن هذه الصياغة. المهمّ أن يجعل كلّ مسيحيّ من المسيح والإنسان قضيّته، أينما وجد في هذا الشرق.
- كيف ترى واقعنا اليوم؟
بعد الشكر للَّه أوّلاً، إذا نظرنا إلى واقعنا اليوم، نرى، من جهة، رعاةً مبرّزين في علم كنيستنا، يحبّون اللَّه، ويهتمّون بأمور شعبه. ومن جهة أخرى، نرى حضورًا للشباب في الكنيسة وحضورًا كبيرًا للجماعة الأرثوذكسيّة في الوقت عينه. لكنّ هذا علينا ألاّ نكتفي به. هذا يلزمنا جميعنا، أساقفة وكهنة وعلمانيّين، أن نعمل معًا من أجل تثبيت هذا الحضور ومدّه إلى حيث الكسل واللامبالاة يبدوان خيارًا أبديًّا. كيف تصل نهضة المسيح إلى القريب والبعيد؟ كيف نثبّت حضورنا الحقيقيّ في ترسّّخنا في أرضنا والتزامنا شؤونها، والسعي إلى بنائها؟ وكيف نتغلّب، في هذه الظروف القهّارة، بإيمان حارّ وصلب، على كلّ مشاعر الخوف واليأس والانعزال، ويكون حضورنا في هذا المدى، لا بالكلام فقط بل بالفعل أيضًا، حضورًا حيًّا وخادمًا الحياة؟ هذا ما ينتظره الربّ الذي شقّ السماوات ونزل، وعاد وشقّ الأرض وقام. هذا تكليفنا أن نبقى شهودًا لهذه القيامة المحيية، نعيشها بإخلاص وصدق وتواضع وصوم وصلاة ومعرفة وتكريس الوقت والجهد والمال، ليقوم هذا العالم من أمراضه وآفاته. ألا يركّز المبدأ الثاني على أن النهضة تقوم على ممارسة الصلاة والأسرار الكنسيّة وعلى ترجمة الإيمان في الحياة اليوميّة في الاستقامة والخدمة والمحبّة؟
المطلوب اليوم أكثر فأكثر أن نشهد للَّه وحقّه في مجتمعاتنا على المستويات كافّة. وهذا، كما أشرنا قبلاً، يحتاج إلى تحرّك جدّيّ وسعي حثيث وملموس لوقف نزف هجرة الشباب والأدمغة، وخلق فرص عمل وعلم جديدة، وتفعيل الأوقاف الجامدة والاستفادة منها لخير الجميع، ونشر المعرفة عبر وسائل الاتّصال الحديثة، وتسخير كلّ القوى الممكنة، واكتشاف المواهب وتفعليها في خدمة الإنسان وقضاياه. الحركة لا تدّعي أنّها وحدها تستطيع أن تجد الحلول الناجعة لهذه المشاكل كلّها. لكن، يبقى دورها طليعيًّا عبر تكرّس شبابها إكليريكّين وعلمانيّين، وشهادتهم في هذا العالم. كلّنا مسؤول عن أن نستلهم الربّ الذي قال: »من سقى أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد باسم تلميذ، فالحقّ أقول لكم إنّه لن يضيع أجره« (متّى ١٠: ٤٢). هنا، أودّ أن أنوّه، بسرعة، بدور الإخوة في سورية وشهادتهم الحرّة في أطر عدّة في هذه الأزمة القاتلة التي نرجو أن تنتهي اليوم قبل غد، وبدور اللبنانيّين الذين عاشوا تجربة الحرب المريرة، وثبّتوا، بإخلاصهم للَّه، أطرًا شهاديّةً جديدة.
أعتقد أنّ دور الحركة الأوّل بل الدائم أن تستلهم من الإنجيل حملة المخلّع الذين نقبوا السقف، ليعرضوا مريضهم على الربّ، أي دورها أن تحمل نفسها وأعضاء الكنيسة جميعًا، وأن تجتهد في أن تصل معهم إلى الربّ الذي عنده دائمًا الكلمة المخلِّصة والشفاء الأبديّ الذي يجعلنا نطفر كالأيّل في خدمته. أمّا دورها الآخر الذي يهمّني أن أشير إليه، فهو المساهمة في خدمة الوحدة الكنسيّة وتمتينها بقيادة غبطة السيّد البطريرك والسادة المطارنة أعضاء المجمع الأنطاكيّ المقدّس، أي أن نعمل كلّنا معًا لنكون فعلاً جسدًا واحدًا في كلّ مكان. التحدّيات كثيرة. والمشاكل كثيرة. لا يمكننا أن نبسّط أيّ برودة أو رائحة تشرذم من دون أن نواجهها كلّنا بحبّ الوحدة التي هي خيرنا وشهادتنا. هنا لا بدّ من أن أشير إلى خطر هذه النزعة الأصوليّة المتفشّية في بعض أوساطنا هنا وهناك، أوساطنا الإكليريكيّة والعلمانيّة، التي تحنّ إلى زمن بيزنطية وأمجادها الغابرة. هناك أشياء لا نستطيع أن نكتفي بذكرها، أشياء خطرة إن سمحنا لها بأن تعمّر، فلن تتركنا بخير. نحن فعلاً نحتاج اليوم بل الآن إلى حوار أخويّ بنّاء يساعدنا على مواجهة مشاكل مستحكمة وطارئة تطلب أن تتحكّم فينا. لا شيء مثل هذا الحوار يبدينا إخوةً نرفض كلّ تشرذم يشوّه أيقونة الوحدة الذي هدانا الربّ إيّاها بموته وقيامته.
بالتأكيد، تحمل الحركة في جسدها جروحًا بسبب اتّساع العمل وحدّة الأزمات المحيطة. يبقى هناك دور بارز لشبابها في العمل الاجتماعيّ والنهضة الدينيّة التي تشهدها كنيستنا والتماع كبير للأجيال الجديدة التي تسعى جاهدة إلى القداسة، ضمن كلّ المواجهة الحضاريّة التي تخاض ضدّ روح الجماعة والتي تعلّي روح التفرّد التي تسود العالم.
- كيف تواجه الحركة بمبادئها تحدّيات العصر؟
بالعمل الحثيث على تأهيل الشبيبة للشهادة وتطوير أساليب التخاطب والقيادة، وعلى تطوير مهاراتهم، والتركيز على السعي الشخصيّ الحقيقيّ للقداسة عبر التصاق دائم بالكتاب المقدّس وفكر الآباء والصلاة الجماعيّة والفرديّة، عبر فرق متلمذة متحلّقة حول مرشد مختبر مشهود له بالإيمان والثقافة الكنسيّة.
في ما يتعلّق بالخدمة الاجتماعيّة، تسعى الحركة إلى توسيع نطاق عملها كمشروع التبنّي المدرسيّ، وإطلاق مشروع جديد لتوعية الشبيبة على خطر المخدّرات والتواصل مع جمعيّات متخصّصة في هذا المجال. كما تسعى إلى حضور مجتمعيّ أوسع عبر إطلاق شهادة جديدة في مخيّمات اللاجئين والمجتمعات المضيفة، وهي في طور تطوير مشاريع مع هؤلاء لا تزال في مرحلة أولى.
كما تعمل الحركة على تفعيل مشاركتها في العمل المسكونيّ، وإحياء سندسموس بالتعاون مع الكنائس والحركات الشبابيّة الأخرى.
فالأرثوذكسيّة، كما جاء في المبدأ السادس، هي على اتّصال دائم بالتيّار الأرثوذكسيّ في سائر أنحاء العالم، وهي تحيا الوحدة الإفخارستيّة، وتتصدّى للانشقاق الجارح بين المسيحيّين، وفي الوقت عينه تتمسّك بالإعلان الإلهيّ كما تسلّمته من الرسل. وفي هذا الإطار، كانت زيارة الأمين العامّ مع وفد مرافق إلى الكنيسة القبطيّة والكنيسة الإثيوبيّة وإلى روسيا.
كما أنّ الحركة تعيش هاجس الفقير والمظلوم، وتسعى إلى التصدّي لكلّ القضايا المشينة التي تواجهها الإنسانيّة. ومن هذا المنطلق، هناك، في كلّ مركز من مراكزها، لجنة تهتمّ بالخدمة الاجتماعيّة، وهي على تواصل دائم مع مسؤول الخدمة الاجتماعيّة في الأمانة العامّة.
- هل لك من كلمة أخيرة في هذا الحوار؟
ليست لي كلمة أخيرة سوى كلمتي الأولى. نحن نحتاج دائمًا إلى أن نختبر كلّ يوم أنّ اللَّه يريدنا له معًا كبارًا وصغارًا، قادةً وعلمانيّين... هذه كنيسة غالية. الخطايا متعبة. والكسل جنون. لا وقت لنا نضيّعه. إن لم نجتهد في تفعيل مواهبنا خدمةً للحقّ في فهم كبير وقداسة سيرة، فيسأخذ اللَّه إرثه منّا، ويعطيه لآخرين. اللَّه إله الوعي والفعل والمحبّة والعضد. كلّنا مسؤولون بعضنا عن بعض. هذا أحبّ أن يذكّرنا بأنّنا مسؤولون حتّى عن الذين لا تعنيهم كنيستهم. هؤلاء كنز، إن استردّوا التزامهم. نحن لم نفرّق يومًا بين شابّ وفتاة أو بين شابّ أو كهل أو شيخ. هذا رسم الرسول الذي أوصانا في رسالته إلى أهل غلاطية بقوله: »لأنّ كلّكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح... ليس ذكر وأنثى لأنّكم جميعًا واحد في المسيح يسوع، فإن كنتم للمسيح فأنتم حسب الموعد ورثة«.
من هنا أخيرًا تتعاظم الدعوة إلى إحياء شموسيّة النساء. الكنيسة الأرثوذكسيّة في الإسكندريّة سبقتنا إلى هذه الخطوة. لقد رسمت شمّاسات يقمن بالخدمة الاجتماعيّة والعمل البشاريّ، على شاكلة الشمّاسة فيبي خادمة الكنيسة في كنخريا (رومية 16: 1).
هذا، ولك شكري.l