2016

14- الحياة هبة – الأب إيليّا (متري) – العدد السادس سنة 2016

الحياة هبة

الأب إيليّا متري

 

ليس الموت واحدًا من أصحابنا، لنسعى إلى أن نقاربه ونصاحبه، أو يمًّا هادئًا، لنرمي أنفسنا فيه. الموت عدوّ. وهذا ما سيبقى عليه إلى أن يُبطله اللَّه الآتي قريبًا في مجده (1كورنثوس 15: 26).

أن نعي أنّ الموت عدوّ ، أمر يحدّد لنا سبيل نظرتنا إليه، أو إلى أسبابه، أيًّا كانت. ولا يخالف هذا السبيل أن نعتقد أنّ الربّ نفسه قضى على الموت بموته. فالموت، وإن كان ثمّة مَن يدغدغهم أن يخرجوه من تحت الأنقاض إن بمصاحبته أو قبوله حلاًّ في أوضاع يحسبونها صعبة، قضى الربّ عليه فعلاً.

أيّ مؤمن ورع لا يليق به أن يعتقد أنّ التعليم المسيحيّ لم يشجب الانتحار شجبًا صريحًا. فالربّ، بإعلانه ذاتَهُ أنّه »الطريق والحقّ والحياة« (يوحنّا 14: 6) أو »القيامة والحياة« (يوحنّا 11: 25)، كشف أنّ الموت، الذي مدلوله الأعلى أن نبتعد عن الحياة مع اللَّه، لا يراه حلاًّ أيُّ إنسان جمعته بإلهه علاقة ودّ، أو دعوته أن يعي أنّ إلهه قائم، ليمسح عن عينيه كلّ دمعة حزن أو ألم، وعن نفسه كلّ قلق وانهيار.

في قوانين القدّيس تيموثاوس الإسكندريّ الذي شارك في المجمع المسكونيّ الثاني (العام الـ381)، نقرأ هذا السؤال الذي وضعه بنفسه: »هل يجوز تقديم الذبيحة عن روح مَن أضاع رشده فقتل نفسه؟«. ثمّ نقرأ عنه جوابه التالي: »على الكاهن أن يستقصي عن الحقيقة، فلا يقدّم الذبيحة إلاّ بعد أن يتحقّق أنّ المنتحر فَقَدَ عقله قَبْلَ الانتحار« (مجموعة الشرع الكنسيّ، صفحة 910). وحسبي أنّ هذا الجواب، الذي ينسحب على إقامة صلاة الدفن على أيّ منتحر، لا يعارضه أنّ الكنيسة، بتدبيرها الحكيم، حفظت لنفسها أن ترعى، أيضًا، مَن يخصّون أخًا أخطأ في إماتة نفسه، أهلاً كانوا أو أصدقاء. هي، أي الكنيسة، على علمها بأنّ اللَّه كلّفها سلطان الربط والحلّ، لا تمنع نفسها من أن تلتزم الرحمة نهجًا ورجاء.

أمّا الرحمة التي يريدنا اللَّه أن نلزم أنفسنا بها، فأن نبقى نعي، في أيّ ظرف من ظروف حياتنا، أنّنا، إن حاولنا أن نؤذي أنفسنا، لا نؤذي أنفسنا ومَن يخصّوننا فقط، بل، أيضًا أو أوّلاً، نلغي أنّ اللَّه موجود. إن كنّا نعلم، فيجب أن نبقى على علمنا أنّ اللَّه، الذي يغازلنا في غير وقت، لا يستخفّ بمَن يأتيه بعد عداوة انتهجها زمانًا قصيرًا أو طويلاً. هذا، وإن اعتبره الجهّال وصوليّة، لا علاقة للَّه به. اللَّه أبونا. ومن غير الممكن أن يستكبر اللَّه على أيِّ ولدٍ من أولاده، وإن أتاه من بعيد، بل يترك الدنيا، ويتفرّغ له.

كلّنا قرأنا قصّة الابن الذي ترك منزل أبيه، أي اللَّه نفسه، وتبع سيّئاته (لوقا 15: 11- 32). لم يذكر الإنجيليّ، مدوّن القصّة، أنّ هذا الفتى الأزعر، بعد أن قرّر العودة إلى البيت، مرّ بباله أنّ أباه لن يقبله. وهذا لا يعني سوى أنّ اللَّه كان معه بعيدًا يحرّك رجوعه إليه. بلى، القصّة تقول إنّ أباه كان ينتظره على شرفةِ منزلِهم يأكلُهُ شوقُهُ إليه. لكنّ قولها لا يمنعنا من أن نرى يدَيْ اللَّه ممدودتين إلى جحيم ابنه، ليردّه إليه. لا يأتي الناس إلى اللَّه بتصميمهم فقط، بل وعي حبّه هو الذي يحيي تصميمهم، ويتمّمه معهم. الابن الضالّ استسلم ليدي اللَّه اللتين شعر باحتضانهما من بعيد. وهذا ما ينتظر اللَّه أن نتمثّل به.

هذا أوّلاً. أمّا ثانيًا، فنحن، مسيحيًّا، لا نقول إنّ الذين يلتزمون الحياة الكنسيّة لا يمكن أن يتعبوا إطلاقًا. هذا يلغي أنّنا بشر من لحم ودم...، أو يخفي أنّنا نحيا في دنيا تعبها قد يفوق أن يتحمّله بعضنا أحيانًا، ويجعلنا ملائكةً أو من طينة لم ترث نتائج خطيئة آدم! لكنّنا نقول إنّ اللَّه كفيل بنا دائمًا. لا، بل إنّه الحرّ في أن يحبّ الخطأة والمتعَبين قَبْل سواهم! الإله المرعِب، الذي يتابعنا بعصاه من سمائه، ليس هو إلهنا الذي مات حبًّا بنا جميعًا. وإن ردّدت هذا، لا أعني أنّ الجماعات المسيحيّة تخلو، اليوم، ممَّن يُبدون تعاليًا على اللَّه باتّهامهم بعضَ المتعَبين، أو المرضى (جسديًّا أو نفسيًّا)، بأنّ مسيحيّـتهم عرجاء! وهذا، الذي قد يبعد الناس، إخوتنا، عن اللَّه بتشويه أنّه يحبّهم ويؤذيهم، جريمة تخالف عبادتنا التي جاء فيها: »واللاويّ، إذ لم يطق الأوجاع النفسيّة، اجتاز بي، ولم يلتفت إليَّ« (التريوديّ، غروب الأربعاء من الأسبوع الخامس)!

أن نعتقد أنّ اللَّه يحبّنا، أمر يلزمنا أن لا نميّز في الحبّ، بل، إن جاز التمييز، أن نحبّ مَن نراهم لا قيمة لهم! بعض الناس، أو كثيرون منهم، يبحثون، اليوم، عن معجزات تبيّن لهم أنّ اللَّه ما زال يُعنى بأمرهم. وإيماننا، إيماننا كلّه، أن نبيّن اعتقادًا أصيلاً أنّ المحبّة، التي تجمعنا بعضنا إلى بعض، هي المعجزة التي تصنع المعجزات. إن تعالينا، قصدًا أو عَرَضًا، على ضعيف، أيًّا كان نوع ضعفه، نخرج على أنّ المسيحيّة شركة في المحبّة. عندما شبّه تراثنا الحياة الكنسيّة بمستشفى، قصد، ممّا قصد، أنّ اللَّه فينا هو الذي يداوينا من كلّ بُعد ومرض. لا يمكن أن تكون قناعتنا بأنّ الموت عدوّ قناعةً كاملةً إن لم نخدم حياة اللَّه بعضنا في بعض. ولن ينفعنا، إن كنّا ننتظر أن ننتفع حقًّا، أن نحصر محبّتنا في القادرين على أن يبادلونا المحبّة بمثلها، بل أن نمتدّ إلى المكبَّلين بالقهر والضعف وكلّ انهيار يقوم لينام، وينام ليقوم. كنيسة يسوع المسيح هي كنيسة إله أحبّنا فيما نحن لا شيء. ولا يكون عضوًا فيها سوى الذي يحذو حذوه في المحبّة.

إن كان لنا أن نستقبح تصرّف أيّ أخ رمى نفسه في ظلمة الموت أو الخطيئة »التي أجرتها الموت«، يجب أن نقبّح أنفسنا على كلّ تقصير في تبيان المحبّة. هذا العالم مسؤوليّتنا أمام اللَّه. وأنّى لنا أن نخدم الحياة فيه إن لم نقل، في بقع الموت كلّها، إنّ المسيح، حيًّا، أحيانا؟ الحياة هبة. هذه خدمة الكنيسة في الأرض.l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search