2016

4- ذكرى – المطران قسطنطين في البال – فؤاد خوري – العدد السادس سنة 2016

 

المطران قسطنطين في البال

فؤاد خوري

 

وفاء لذكرى المطران قسطنطين (باباستيفانو) قام أعضاء مركز دمشق في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة بجمع بعض الشهادات الحيّة، التي استذكرت خبرتها مع المطران الراحل. وكان من المفروض أن يتحدّث السيّد رفيق صابور عن علاقته الوطيدة مع المطران قسطنطين، إذ رافقه مدّة طويلة، إلاّ أنّه انتقل إلى الأخدار السماويّة قبل إجراء المقابلة، فلروحه الراحة ولأهله الصبر والسلوان.

قال فوّاز خوري، رئيس مركز دمشق سابقًا: »تعود معرفتي بسيّدنا قسطنطين (باباستيفانو) بشكل رسميّ إلى العام 1957-1958. أيّامها كنت في جامعة حلب، وكان الأب المرحوم أنطوان (فرح) زميلنا في الجامعة، وهو الذي حدّثني عن الحركة في دمشق. فانتسبت إليها بمساعدة الأخ عصام لحّام ومنى كلاّس المسؤولة عن توزيع مجلّة النور في دمشق حينها. التقيت سيّدنا قسطنطين عندما كان أرشمندريتًا في تلك الفترة 1958-1959 وتابعت مع الحركة خلال وجودي في دمشق.

عندما عيّن الأرشمندريت قسطنطين في دير الحميراء العام 1969، كلّف الأخ فايز لحّام إدارة شؤون الحركة، وعندما كبرت الأزمة في الكنيسة وانشقّ المجمع كتب كتابًا إلى المندوب المجمعيّ المفوّض »ملاتيوس سويطي«، فوّض بواسطته فايز لحّام إدارة الشؤون الداخليّة في المركز، وأنا فوّاز خوري فوّضني الاهتمام بالعلاقات العامّة والعلاقة مع الدولة، أي كلّفني بالشؤون الخارجيّة للمركز، وطبعًا كان هو يتابع العمل.

في العام 1969 أغلق المركز وختم بالشمع الأحمر فانتقلت الاجتماعات إلى البيوت، وأدخلت أشخاصًا أقرباء لي من أجل المساعدة في وضع الكنيسة حينها وحرّضنا أبناء الرعيّة وعمدة الكنائس للوقوف ضدّ الجماعة المنشقّة عن المجمع، وهم أربعة مطارنة هم المطران (سماحة)، والمطران أبيفانيوس (زايد)، والمطران بولس (خوري)، والمطران نيفن (سابا)، حيث احتلّوا البطريركيّة، ولم يستطع أيّ من المطارنة المبيت في البطريركيّة عند قدومهم إلى دمشق بل يقيمون في الفنادق، واستطعنا لاحقًا أن نحوّل مجرى الأحداث لصالح الأعضاء الشرعيّين في المجمع .

في هذه الأثناء كان سيّدنا قسطنطين لم يزل أرشمندريتًا، وكان يتحسّر على الجماعة الكهنوتيّة بشكل عامّ، كما قال لي في أحد الأحاديث الشخصيّة. كانت هذه الحسرة وليدة موروث ثقافيّ قديم لدى المطارنة، لأنّه بما أنّ جذوره يونانيّة، وتاليًا لم يكن من الممكن أن يصبح مطرانًا أو أسقفًا لأنّ هذا يعيد التاريخ إلى الوراء، عندما كان البطاركة يعيّنون من الكنيسة البطريركيّة المسكونيّة، وهم جميعًا يونان ولم يستطيعوا التفاهم مع الرعيّة العرب الموجودة هنا، بالنسبة إليه هذا العذر لم يكن مقبولاً، ولهذا السبب تدخّلت مع فئات معيّنة حتّى نقنع البطريركيّة بأحقّيّة رسمه مطرانًا، وبأنّ هذا السبب ليس عثرة في سبيل ارتقاء الأرشمندريت قسطنطين إلى السدّة الأسقفيّة.

وهكذا كان لاحقًا، فكان هناك عودة للمطارنة إلى البطريركيّة في وقت بقاء ملاتيوس سويطي مندوبًا مجمعيًّا مفوّضًا، وعقد المجمع وانسحب المطارنة الأربعة من البطريركيّة، وحدث انتخاب الأرشمندريت جورج (خضر) أسقفًا على جبل لبنان، والأرشمندريت قسطنطين (باباستفانو) أسقفًا على مدينة بغداد والكويت وتوابعها. أتذكّر البطريرك إلياس الرابع بقوله عنه وسيّدنا جورج (خضر) بأنّهما جناحان للكنيسة أحدهما بالفكر والآخر بالتقليد، وبالطبع هذا يقلّل من البعد اللاهوتيّ لكليهما. ففكريًّا نعرف أنّ سيّدنا جورج (خضر) مؤسّّس للحركة ومنفتح جدًّا على العلاقات المسكونيّة، فيما سيّدنا قسطنطين يمثّل التقليد الأرثوذكسيّ والعادات الأرثوذكسيّة وكلّ ما يختصّ بالتراث، وبخاصّة أنّه عاش فترة الكهنوت قبل أن يرسم مطرانًا ككاهن رعيّة في أبرشيّة دمشق، وعلاقاته كانت مميّزة مع أبناء الرعيّة بلا استثناء، وبشكل خاصّ مع أولاده الروحيّين نحن كأبناء في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة.

عند حضوره إلى دمشق بعد تعيينه مطرانًا على بغداد والكويت، كان يتّصل بي وكنت أنزل إليه إلى البطريركيّة لرؤيته، وفي إحدى المرّات زارني هو في بيتي في دُمّر، وفي المرّة الأخيرة التي أتى فيها إلى دمشق، وكان مريضًا جدًّا، لم يتّصل بي وأنا لم أطلب رؤيته، لأنّه من الصعب علي أن أراه مريضًا وتتغيّر الصورة التي أحتفظ بها له في ذاكرتي لذلك لم أشأ رؤيته...

سعى سيّدنا لئلاّ يكون هناك في الكويت وبغداد أيّ مكان يخلو من التربية المسيحيّة الأرثوذكسيّة طبعًا على اختلاف التسمية للعمل المنشأ في هذه الأماكن...

عندما كان في دير جاورجيوس الحميراء وكانت كلّ المحافظات تقوم برحلات إلى الدير، كان شديدًا في تعامله مع زوّار الدير من ناحية الهدوء والانضباط والعمل بجدّيّة بمساعدة أهل الدير بأعماله، حتّى إنّه مرّة جعل الشباب الزائرين للعمل على وضع حجارة لجعل مجرى السيل الذي يصل إلى نبع الفوّار لا يحيد عن مجراه المحدّد بأخذ هذه الحجارة من قاع المجرى ووضعها على جوانبه، وهذه عمل شاقّ بالنسبة إليهم ما جعلهم يشتكون، فتحدّثت إلى أبينا قسطنطين حينها وكان رأيه أنّه يجب على الشباب أن يعاني القسوة في العمل، حتّى يدركوا القوّة في الإيمان، ومع هذا كان حنانه أكبر بحيث خفّف العمل عنهم لاحقًا.

عندما كنّا نجلس للغداء معه كان سريعًا بتناول الأكل فكان يترك المائدة بعد انتهائه ليترك الشباب على حرّيّتهم في تناولهم طعامهم. هذه من جملة الأمور الحياتيّة التي تدلّ على التزامه وانضباطه على الصعيد التربويّ والكنسيّ، وليس على الصعيد الشخصيّ فحسب، بل ليكون قدوة للآخرين الموجودين معه.

كان أوّل من اكتشف عبر حفريّات داخل الدير القاعة الكبيرة التي نعرفها اليوم وجرّدها وكشف حيطانها وكحّل حجارتها، واكتشف قاعة أخرى موجودة تحتها وتحتوي على بئر عميق جدًّا لا يعرف إلى أين ينتهي. عمل بعض التعديلات في الدير فبنى الجدران وفتح الأبواب ليوصل القاعات المكتشفة بعضها ببعض وكلّها ضمن نظام العقود في البناء.

على الصعيد الروحيّ،كان انضباطيًّا وشديدًا مع نفسه وهو الأساس في تنظيم عمل الحركة في دمشق، وبقي متابعًا لهذا العمل عندما كان في دير القدّيس جاورجيوس الحميراء أو في الكويت وبغداد. وكمتابعة للعمل في الحركة في دمشق كلّف الأخ جورج عطيّة (الأب جورج عطيّة حاليًّا) بإدارة العمل في الحركة بعد سفر الأخ فايز لحّام. بعد انتخاب سيّدنا البطريرك إلياس الرابع أخذنا البيت الحاليّ للحركة وانتخبت أنا أوّل رئيس للمركز، وبهذا ما بقيت هناك متابعة مباشرة لسيّدنا قسطنطين للعمل الحركيّ في دمشق، وأصبحت طلاّته إلى دمشق محدودة.

ليس لأحد فضل على استمراريّة الحركة في دمشق أكثر منه، فهو يعتبر المؤسّّس رقم اثنين لها. لأنّ هناك مرحلة توقّف العمل الحركيّ في مطلع الخمسينات ومن ثمّ تابع العمل أبونا قسطنطين وجمع الأخوة وأعاد إحياء الحركة من جديد. إلاّ أنّني لا أعلم التاريخ الذي استأنف فيه الأب قسطنطين العمل بعد هذا التوقّف.

ساهم في طباعة كتيّبات إرشاديّة صغيرة، تتضمّن الممارسات الواجبة قبل سرّ المناولة وقبل سرّ الاعتراف، وغيرها من المواضيع الإرشاديّة التي تفيد المؤمنين في حياتهم الكنسيّة اليوميّة«.

أديب فرح: »كان الأب قسطنطين (باباستيفانو) يقيم القدّاس الإلهيّ في كنيسة القنيطرة، حيث كان أبًا بالإعارة العام 1966 إلى هناك ، حيث يقيم القدّاس الإلهيّ أيّام الآحاد وفي الأعياد. وإذا اضطرّ إلى النوم كان ينام في بيت غانم.

هو من الآباء المؤمنين وينقل إيمانه إلى الأبناء ببساطته وتواضعه، محبّ وقريب من الجميع. الجميع أحبّه وأرادوه أن يكون لهم راعيًا دائمًا لكنّ النزوح كان أقرب منه إليهم«.  

زهير السبع: »كان بيت الحركة يقع في البطريركيّة أمام مدفن المطارنة في الساحة الخارجيّة، وكان الأخوة متري غزال وزياد زيّات وفؤاد مالك من الحركيّين وقتها، إلاّ أنّ البطريركيّة طالبت الحركة بهاتين الغرفتين في الساحة، فاضطرّ أبونا قسطنطين إلى استئجار بيت الجدّ في شارع حلب، الذي أغلق بالشمع الأحمر بأمر من السلطات، فتحوّلت الاجتماعات إلى بيتي، وحتى الحفلات كانت تقام عندي إلاّ أنّني تعرّضت للمساءلات الأمنيّة فانتقلنا إلى موقع المركز الحاليّ بهمّة الأخ فوّاز خوري.

بدأ سيّدنا بالعمل في الحركة مع عمر المراهقة والثانويّين. وكان في علاقته معهم قدّيسًا، من ناحية الأخلاق والمعاملة. كان إنسانًا وأبا اعتراف للأغلبيّة، وهو الذي شجّع الحركيّين ليصبحوا إكليريكيّين مثل ديمتري حصني، فايز منصور، الأب جوزيف (زحلاويّ)، وأبونا يوحنّا (التلّيّ) كلّهم تلاميذ سيّدنا قسطنطين باعتباره كان الأب الروحيّ لهم، ونظروا مثاليّته ما جذبهم إلى الكهنوت.

لا يحبّ المادّة إطلاقًا، بسيط، لحيته كثيفة وطويلة، ملامحه توحي بالقداسة.

كان ساكنًا بين البطريركيّة وبيت أهله وهو الذي يعيلهم.

رسم مطرانًا على بغداد والكويت في منطقة السالميّة، وأنشأ فيها كنيسة أرثوذكسيّة قويّة وله فضل كبير على الرعيّة هناك، وأوجد اللحمة بين السوريّين واللبنانيّين الموجودين هناك.

كأب روحيّ كان يعطي النصائح للجميع، ويوجّهنا إلى الأصلح لنا، وفي حال الأخطاء لم يكن يغضب قطّ بل تميّز بهدوء كبير.كان إنسانًا محبوبًا بين الرعيّة، يسمع مشاكلهم، الفقير قبل الغني«.

رويدة بعلبكي: »توفّي والدي العام 1963 ولم يتركنا الآباء حينها مثل الأب أيّوب (سميا) ومن بعده أبونا قسطنطين، كان أبًا تقيًّا يزور العائلات والشباب بشكل دائم ويحسّ بوجع الجميع.

صوته جميل، يسأل عن الجميع ويراعي الجميع، رزين بتدريسه وبتعليمه وبهدوئه وبصلواته، كثر عددنا كثيرًا في المركز في أيّامه...

في كلّ سنة كان ينظّم رحلة إلى القدس ورحلة إلى اليونان، ذهبت أنا وأمّي وكلّ أخواتي برحلة إلى القدس وزرنا جميع الأماكن المقدسة هناك.

بفضل روحانيّته تعلّقت بفكرة أن أصبح راهبة منذ طفولتي، وقد عرّفني على دير للراهبات في القدس وأردت أن أكون بينهنّ، وبقيت الفكرة تراودني ما جعل أمّي تشكوني إليه فتكلّم معي وقال لي إنّني، إذا ثبتّ على الفكرة حتّى عمر الثامنة عشرة، سآخذك أنا بيدي إلى الدير الذي تريدينه حينها.

كان كثير الاهتمام بالعائلات وأحوال الرعيّة، فكان المثل الصالح بشخصه بكلامه بوعظه، يهتمّ بالكبير والصغير .

كان أوّل أب روحيّ لي، وبلا شعور كنت أستشيره بأموري الروحيّة رغم عدم إدراكنا حينها معنى الأب الروحيّ وكان يباركنا ويوجّهنا«.

إيفا عيد دحدوح، ابنة أخت المطران قسطنطين: »في العائلة، كنّا نناديه »ثيو كوستا« ولا نناديه بالاسم الكبير. كان أبًا حنونًا ولطيفًا تعلّمنا منه الحياة المسيحيّة الصحيحة. ورغم أنّنا لم نعش معه مدّة طويلة، إلاّ أنّه كان قدوة لنا بكلّ ما في الكلمة من معنى، يؤكّد على الصلاة والصوم والأعمال الخيريّة. أخذنا هذه الدروس منه بشكل مباشر عبر تصرّفاته وحياته وسلوكه. كان يساعد الفقير والمحتاج، وعلّمنا مؤخّرًا أنّ هناك عددًا من العائلات كان يساعدها مادّيًّا بشكل متواتر.

كان دائمًا يردّد »اكنزوا لكم كنوزًا في السماء«. وكأب روحيّ، كان قدوة ليس لعائلته فقط، بل للجميع. ساعد أخوتي على الدراسة في اليونان بتدبير منح تعليميّة لهم، حتّى إنّني علمت، بعد وفاته، بأنّه أمّن منحًا دراسيّة للعديد من أبناء الرعيّة، لأنّ العديد منهم اتّصل بي لمؤاساتي وإخباري بأنّه ساعدهم في حياتهم العلميّة.

فقره: في حياته العاديّة كان فقيرًا، يتقاضى راتبًا من مطرانيّة الكويت، إلاّ أنّه لم يوفّر منه شيئًا. حتّى إنّه عند مرضه تكفّل بطبابته أحد المحسنين من الكويت. كان في اليونان عندما علم أنّ سيّدنا قسطنطين مريض في الكويت ودخل في غيبوبة فأخذه من على سرير مرضه وبالأجهزة المربوطة بها إلى بريطانيا حيث استمرّ في غيبوبته لمدّة شهرين في المستشفى. رافقته خالتي حيث أقامت في فندق قريب وكلّ هذا كان على نفقة هذا المحسن الكريم، إلى أن قالوا لها في المستشفى إنّ أخاها مات موتًا سريريًّا، لكنّها رفضت الاعتراف بهذا ودخلت العناية المشدّدة ونادته كما اعتادت (كوستا) إذا كنت تسمعني أعطني إشارة بحركة ما، فحرّك حاجبيه، ومن بعدها بدأ يتعافى شيئًا فشيئًا، إلى اليوم الذي أخبرها فيها الأطبّاء بأنّها تستطيع نقله إلى بلده، واعترفوا بأنّ هذه أعجوبة حصلت. فبعد إقرارهم موته سريريًّا تعافى وأعيدت إليه الحياة... وعاش سيّدنا لمدّة ثماني سنوات بعد هذه المرحلة، خلالها عاد إلى الكويت وبقيت خالتي إليزابيت ملازمة له ولم تتركه.

كان يحبّ بغداد كثيرًا، فعندما نشبت الحرب مع إيران تهدّمت الكنيسة الأرثوذكسيّة هناك، إلاّ أنّه أعاد إعمارها بمعونة المحسنين، وبنى له قبرًا  وطلب أن يدفن فيه بعد موتظه. إلاّ أنّ الظروف صعبة جدًّا، فخالتي تعلم برغبة سيّدنظا، إلاّ أنّنظ لم نستطع أن نحقّق له رغبته، لأنّنا لا نستطيع نقل جثمانه إلى بغداد، نأمل في يوم ما أن يتحقّق مطلبه«.l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search