2016

3- ذكرى – صورة المطران قسطنطين باباستيفانو – الأب فايز (منصور) – العدد السادس سنة 2016

 

صورة المطران قسطنطين باباستيفانو

الأب فايز منصور

 

الذاكرة محمّلة بألف صورة وصورة، بألف ذكرى طيّبة، بألف كلمة عطرة، إلاّ أنّ الصفحات والكلمات لن تفي هذا المنتقل عنّا إلى الأخدار السماويّة حقّه. عملنا معًا في حقل الربّ وفرحنا معًا بميلاد الربّ وبقيامته وبأعياد كثيرة مجيدة، وتجلّت سعادتنا في أناس التفّوا حول كلمة الربّ.

في هذه الأسطر القليلة، سأحاول أن أرسم صورة واضحة عن مطران عشق كلمة الربّ وترجمها عشقًا لكنيسته ولشعبه، أينما حلّ وحيثما وُجد.

هذه أسطر قليلة من رفيق درب دمشقيّ عايش قامة روحيّة كبيرة لا يمكن تلخيصها في هذه المقالة، لكنّها ستبقى شاهدة على صفات رجل أخلص للقضيّة وكرّس لها العمر كلّه.

من هو المطران قسطنطين باباستيفانو في عينَي رفيقه؟

C إيمان عميق يشعّ نورًا محبًّا فيّاضًا.

C تواضع قلّ نظيره بين الإكليروس والرهبان والمتوحّدين.

C تحسّس بأعمق أعماق الفقراء والمرضى والمحتاجين والمحرومين. 

C صفاء في الفكر ونقاء في القلب والنيّة يماشي قوّة المحبّة.

C غيرة على الكنيسة وتراثها الليتورجيّ والآبائيّ والصلاتيّ، وبخاصّة الكنيسة الأنطاكيّة التي كان يفاخر بها ويجلّها.

C قلق من أنّ الكرم خصب أمّا الفعلة فقليلون.

C تواضعه كان يزيّن حياته وفقره، وحرصه على أموال الكنيسة كان شديدًا.

انخرط في العمل مع الشباب في إطار حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة.

حافظ على التوازن في العلاقة بين السلطة الكنسيّة والحركة، واستطاع ضبط الاندفاع الشبابيّ للإصلاح في الكنيسة، عبر بناء الشخصيّة الذاتيّة إنجيليًّا. وعندما كنّا نسأله عن كيفيّة تصرّفنا في كثير من الحالات الخاصّة والعامّة، كان يقول: »أنظر إلى الربّ يسوع كأنّه واقف معك ثمّ تصرّف بما يرضيه«.

صمته وامتناعه عن الجدل عندما يحتدّ النقاش. وكان يعود إلى الموضوع المثار في وقت آخر حين يكون الجوّ الحواريّ هادئًا والتفاهم واضحًا.

لم يسعَ إلى إثبات رأيه أو فكرته عبر النقاش أو الضغط، ولا من طريق التعالي في العلم اللاهوتيّ أو الحياتيّ.

كان يحاول أن يقنع الآخر عبر تصرّفه وعيشه وعمله.

عبر مرافقتي له في الكثير من الزيارات الرعائيّة، كان يحرص على ألاّ يذهب وحده، بل يفرض أن يكون معه أحد الإخوة أو الأخوات، من مدارس الأحد، وهي التسمية التي أطلقت على حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في أواخر العام 1958، لأسباب معروفة آنذاك. فالضغط الأمنيّ كان يطال حرّيّة الكثيرين من السياسيّين والدينيّين الذين وُصفوا بالرجعيّين واللاتقدّميّين.

تحمّل كلّ الضغوط التي مارسها عليه بعض الإكليريكيّين في الإدارة البطريركيّة، وأجهزة السلطة الحاكمة، التي كانت تسعى إلى إيقاف العمل في مدارس الأحد والشبيبة الأرثوذكسيّة. وبسبب الضغط هذا ازداد تعلّق الكثيرين بدينهم وبإنجيلهم، وأخذوا على عاتقهم الاجتهاد في قراءة الكتاب المقدّس ودراسته، وبخاصّة العهد الجديد منه، وفي العودة إلى تراث الكنيسة. واتّجهوا أكثر إلى الصلوات، بخاصّة لما كانوا يشعرون به من فاعليّة الصلاة عند رؤيتهم الأب كوستا يصلّي معهم. وتأثّر كثيرون بعشقه للصلاة حتّى ساروا على منواله. هو اليونانيّ الذي كان يشدّد على التراث الأنطاكيّ، وعلى المحبّة المسيحيّة التي كانت تحاربها الأحزاب العلمانيّة والإلحاديّة، التي عرفت شعبيّة واسعة في الأوساط الشبابيّة آنذاك.

كان يتألّم كثيرًا عندما يرى أبناء كنيسته الأنطاكيّة ينخرطون في العمل الحزبيّ والسياسيّ، ولا يهتمّون لكنيستهم وتراثهم المسيحيّ، الذي كان يحمل في طيّاته مبدأ التجدّد والتغيير والتقدّم، في مجالات الحياة المتقلّبة كافّة، وذلك بسبب التغيّرات السياسيّة السريعة والمتوالية، مثل التحرّر من المحتلّ الفرنسيّ، تليه الانقلابات المتتالية، وبعدها الوحدة العربيّة والوحدة بين سورية ومصر، والممارسات العشوائيّة وغير الواعية، والضغوطات الأمنيّة التي كانت تطال في ما تطال كلّ نشاط كنسيّ وحتّى رعائيّ وشبابيّ.

حاول الأب كوستا استيعاب أغلب الضغوطات، وقاد الشبيبة آنذاك إلى الحكمة في ممارسة حياتهم الدينيّة والنشاطات التي تهدف إلى الخدمة العامّة.

تشكّلت بفضل جهوده مجموعات من الشباب والشابّات من مدارس الأحد، لزيارة عائلات الأطفال والتلاميذ، الذين كانوا يمنعون من الانخراط في الشبيبة الأرثوذكسيّة ونشاطاتها. واعتنت مجموعات أخرى بعيادة المرضى والمساجين والمستشفيات، وبتعليم الأطفال وتعريفهم بمسيحيّتهم وبإنجيلهم، وبتعليمهم التراتيل الكنسيّة والخدم الإلهيّة، وكيفيّة العيش كأخوة وأخوات في مجتمعهم الصغير والكبير.

كانت تلك الأيّام صعبة جدًّا، بخاصّة في ما يتعلّق بموضوع الاختلاط بين الشباب ذكورًا وإناثًا. عمل الأب كوستا جادًّا وبكلّ حكمة في هذا الإطار، وكان يزور أهالي الفتيات، ويشرح لهم أهمّيّة هذه اللقاءات المختلطة، مؤكّدًا عدم القلق أو الخوف، لأنّ هذه النشاطات تدرّب الشبيبة على العيش المشترك وعلى الأمانة كعائلة واحدة في بيت واحد هو الكنيسة. فهو آمن بأنّ الشبيبة هي أمل الكنيسة وبقاؤها وهي تحمل سراجها المنير.

توجّه إلى أثينا حيث تلقّى علومه اليونانيّة وقدّم البكالوريا باللغة اليونانيّة ونجح. هذا لكي يستطيع الانتساب إلى الجامعة بهدف دراسة اللاهوت والحصول على الإجازة. وعند عودته إلى دمشق، بدأ بتأسيس نواة حركيّة بصورة جدّيّة ورسميّة في العام 1958. عندها كان يجمع الطلاّب والطالبات في مدرسة الآسيّة البطريركيّة، ويشجّعهم على الانخراط في جوقات الترتيل. التزم بعضهم بجوقة الكاتدرائيّة المريميّة، وكان آنذاك المرتّل الأوّل في الكرسيّ الأنطاكيّ هو الأستاذ إيليّا سيمونيذس، الموسيقيّ البيزنطيّ صاحب الصوت الملائكيّ. هذا كان يعتمد الترتيل باللغة اليونانيّة ومتابعة النوطة البيزنطيّة التي كان يسمّيها الاستنبوليّة الدمشقيّة. وطلب من الراغبين في الترتيل تعلّم قراءة اللغة اليونانيّة. فتطوّع الأب كوستا وشرع في تعليم اللغة اليونانيّة والموسيقى البيزنطيّة لمن يرغب من الشبيبة في مقرّ البطريركيّة. ولكي نستطيع فهم ما كنّا نتعلّمه ونرتّله أخذ يعرّب القطع المرتّلة، وهذا ما تطلّب منه مجهودًا كبيرًا. وكثيرًا ما كان يكلّمني على الترجمات العربيّة المستعملة آنذاك في الخدم الليتورجيّة والصلوات. وكان يبحث ويتحقّق من دقّة الترجمة مستعملاً الكتب المتوفّرة آنذاك في ديرَي البلمند ومار جرجس الحميراء، وغيرهما من الأديرة والكنائس. ثمّ عمل بعد حين على إعادة طبعها بعد تنقيح ما استطاع تنقيحه وغرس في الكثيرين من الشبيبة هذا التوق وهذا التخصّص.

ولشدّة تعلّقه بالتراث الكنسيّ، سعى إلى تنقيته من الشوائب التي دخلته بسبب أوضاع الجهل والأمّيّة، التي فرضتها على الكنيسة والمجتمع السلطات العثمانيّة المحتلّة، التي كانت تهدف إلى عثمنة كلّ شيء في الأراضي التابعة لسلطتها. حتّى إنّها عملت على إثارة النعرات الدينيّة والطائفيّة كي يسهل عليها الضغط والاضطهاد ضدّ من كان يخالف الأوامر والفرمانات السلطانيّة العمياء والجشعة والظالمة.

ما زلت أذكر الآية التي كان يردّدها من المزمور الخمسين: »قلبًا نقيًّا أخلق فيّ يا اللَّه وروحًا مستقيمًا جدّد في أحشائي«.

نعم سمع الربّ صلاتك وطلباتك أيّها القدّيس فأعطاك هذا القلب النقيّ الذي عرفناك وعرفه بك الجميع. وكان روح الاستقامة عندك قويًّا، ورثته عن والدين عرفتهما بهذه الصفة التي انتقلت إليك وإلى أخوتك وأخواتك، وإلى كثير من محبّيك ومنهم الأخ رفيق صابور المنتقل عنّا إلى الأخدار السماويّة في هذا اليوم المبارك الذي نودّع فيه عيد الفصح، ونستقبل عيد صعود الربّ بطبيعتيه البشريّة والإلهيّة، رافعًا معه المؤمنين به إلى الحياة الأبديّة. l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search