2015

9. قرأت لك: "قناديل البحر" - باسيل خوري – العدد الخامس سنة 2015

 

 

قناديل البحر

باسيل خوري

 

قرأت، باهتمام بالغ، كتابًا صدر عن تعاونيّة النور للنشر والتوزيع م.م.، جذبني فالتهمته بلذّة دفعة واحدة. »قناديل البحر« للمؤلّف الدكتور جان عبداللَّه توما سياحة في هذه المدينة الرائعة الجالسة على شاطئ البحر المتوسّّط، شمال لبنان. كتاب يعبق برائحة البحر وبحركات الصيّادين في قواربهم، سعيًا وراء قوتهم اليوميّ، وبالهموم اليوميّة لأهل هذا الميناء المتواضع. كتاب يصف مواجهة هؤلاء لعواصف الزمان والشعوب التي مرّت بلبنان كالعثمانيّين والفرنسيّين.                             

بطل الرواية، نجيب، هو شاب من ميناء طرابلس يحبّ بلدته ككلّ الميناويّين ترعرع مع سائر الصيّادين، مسيحيّين كانوا أو مسلمين. يخبرنا عن المساحات التي كان يتنقّل فيها: المساجد الحمّامات، الكنائس، القهاوي البحريّة، الجمارك والساحات وكنيسة مار إلياس. مساحات دينيّة ولكن غير مقفلة بعضها على بعض.                                                          

ينطلق الكتاب من الحقبة الأخيرة من العهد العثمانيّ، المجاعة وسفر برلك، وحماسة الشباب لفكرة القوميّة العربيّة حتّى يعطينا، بواسطة نجيب فكرة عن الوحدة العربيّة، أو حلم الإمارة العربيّة تحت راية الملك فيصل بن الحسين. حماستهم ونضالهم ضدّ السلطنة العثمانيّة. ولكن، في جزيرة قبرص حيث التجأ نجيب هربًا من سجن العثمانيّين، فكّر بماضيه وتساءل عن جدوى محاربة الأتراك والانفصال عنهم، وبخاصّة عندما استرجع فترة نشوء القوميّات التي تحمّس لها ودور الإرساليّات الدينيّة في تباعد الطوائف بعضها عن بعض. وكيف زاد الشكّ والاضطراب النفسيّ عند نجيب حين هزم الملك فيصل في ميسلون أمام الجيوش الفرنسيّة الزاحفة نحو دمشق. تساءل: ما نفع القضاء على »الرجل المريض«، أي السلطنة العثمانيّة، إذا استبدل باحتلال آخر؟ بعد أن تشاور مع الكاهن الذي آواه في قبرص، رجع نجيب إلى الميناء، مسقط رأسه، ولكنّ الشوق إلى أمّه وحبيبته لم يستطيعا إخماد عطشه إلى الأفكار والأوضاع السياسيّة. عنفوانه جعله يرفض العمل مع »الفرنساويّين«، كما يسمّيهم الكاتب، في الجمارك. لكنّه تزوج وتابع مهنة أبيه، أي الصيد، من دون أن ينسى متابعة الأحداث السياسيّة في العالم آنذاك، فهو اهتمّ بالفكر الشيوعيّ الذي تسرّب إلى البلدان العربيّة. فنصـرة الفقير والصـراع الطبقـيّ دغدغـا أفكـار الشبــاب العربيّ يومها، ما شجّعهم على تأسيس أحزاب شيوعيّة في أوطانهم.                                                                                    

لكنّ كلّ هذه الأفكار والتيّارات السياسيّة اصطدمت عند نجيب بمحيطه الضيّق. فلم تجد سبيلاً عنده كي يغادر عالمه ويخوض معترك السياسة، رغم أنّه لم ينجب ولدًا وأخذ يتابع العمل في البحر، وبدأ عمله في بناء السنسول رغم نصيحة صديق له كي يعمل في الصناعة، التي لها مستقبل واعد.                                                                                            

كلّ هذا مدوّن بأسلوب سلس يشدّك إلى متابعة المطالعة من دون ملل. ما يجذبك أيضًا تلك الصور العديدة القديمة بالأسود والأبيض التي تزيّن الكتاب، أمّا النصّ بحدّ ذاته فهو معبّر ومليء بالأسلوب الصوريّ، »ولأوّل مرّة تمدّد الأفق عند الشاطئ وتململ القمر مدّعيًا النعاس...«. واللافت في هذا الكتاب أنّ بطل القصّة تأثّر بكاهن جزيرة قبرص الذي ذكّره بصلوات أمّه وبخور كنيسة طفولته. تأثّر بكرمه وصمت لم يحاول أن يعظه، بل عاش معه بطريقة مسيحيّة.                                      

لفتني أيضًا حبّ نجيب لأمّه، هذا الحبّ الذي يجسّد حبّ الكاتب لأمّه التي أهداها هذه الرواية. كما لفتني وصف نجيب لزوجته بهذه العبارات الرائعة: »كانت إلهام« ذلك الندى الصباحيّ الذي يغسل وجنتي الوردة صباحًا فيسقي من دون أن يجرح، ويحيي البرعم من دون اقتحام«. l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search