2015

5. العناية بالمسنّ: الخيار الصعب بين المنزل ودور العناية - د. ناظم باسيل – العدد الخامس سنة 2015

 

العناية بالمسنّ: الخيار الصعب بين المنزل ودور العناية

د. ناظم باسيل

 

لا يهدف طبّ الشيخوخة فقط إلى إطالة أمد الحياة كمًّا ونوعًا، بل يحرص أيضًا، وأوّلاً، على ألاّ يشيخ المسنّ ليصبح عجوزًا عاجزًا. ليس القرار، بحدّ ذاته، باختيار دار الرعاية للمسنّ أو المريض صائبًا أو جائرًا، بالمطلق، إذ إنّه من المفترض أن يُصار إلى الاهتمام بالمسنّ، سواء في البيت أو في دار الرعاية. في الواقع، لا قاعدة ثابتة ترعى الموضوع، وإن كان من الثابت أنّ بقاء المسنّ ضمن محيطه وعائلته هو الأفضل، متى كانت خدمته تتمّ بصورة لائقة، إلاّ أنّ الظروف الحياتيّة قد تفرض ذاتها، فيصبح القرار بين الأفضل والممكن والمُراد حتميًّا. فيما يتأقلم المسنّ في دور الرعاية، لا يتأقلم أهله ومحيطه بالسرعة عينها عادةً لما يخالجهم من شعور بالذنب وشكوك حول صوابيّة القرار. في كلّ هذا، يكمن الاعتبار الأهمّ في مصلحة المريض أو المسنّ من النواحي الجسديّة والنفسيّة والروحيّة كافّة. فما هي حسنات دور الرعاية وما سيّئاتها بالنسبة إلى المسنّ؟

غالبًا ما يأتي القرار باللجوء إلى دار الرعاية بسبب المشاكل الصحّيّة والنفسيّة والعقليّة والسلوكيّة التي يعانيها المريض أو المسنّ سيّما متى اقترنت مع الخرف وعدم القدرة على أداء الوظائف الحياتيّة اليوميّة. أمّا من جهة العائلة، فيُصار، في معظم الأحيان، إلى إرجاع أسباب القرار إلى عدم القدرة المادّيّة والمعنويّة على إعالة المسنّ، بغضّ النظر عن صوابيّة هذه الأسباب أو واقعيّتها. نأسف أن نقول إنّها أسباب واهية في أغلب الأحيان، إذ تغلّف رغبةً مضمرة في السعي إلى إبعاد المسنّ لما تتطلّبه العناية به من جهود وتضحيات.

رغم ذلك، تتمحور أولى حسنات دار الرعاية حول تأمين العناية الطبّيّة اللازمة للمسنّ، سيّما متى كان متخصّصًا وموثوقًا ومعتمدًا من الطبيب المعالج. ونذكر أيضًا في سياق الحديث عن الحسنات: مشاركة المسنّ أو المريض في النشاطات الاجتماعيّة والداخليّة، استفادته من زيارة الطبيب الدوريّة واختصاصيّي التغذية والعلاج الفيزيائيّ، العمل ضمن فريق متخصّص ومتمرّس. كما تشكّل المؤسّّسة مكانًا آمنًا للمسنّ بدوام كامل وجوًّا مسلّيًا مع أقرانه سيّما متى كان مدركًا، إضافة إلى ذلك، فإنّها تخفّف من الأعباء عن كاهل العائلة.

بالمقابل، لا يُخفى على أحد أنّ اختيار دار رعاية متخصّصة وموثوقة، تتمتّع بمستوى طبّيّ وإدرايّ يؤمّن إقامة مريحة وكريمة، وعناية دائمة ومتخصّصة بالمسنّ والمريض، هو خيار مكلف. هذا وإنّ دور الرعاية من المستوى المتوسّط وما فوق المتوسّّط على الأقلّ - تعاني كون الممرّضات غير متمرّسات أحيانًا كثيرة مقابلةً بالمستشفى. أمّا من الناحية المعنويّة، التي غالبًا ما تتحوّل إلى مشاكل جسديّة نفسيّة أيضًا، فنلفت إلى معاناة المريض أو المسنّ من الوحدة وعدم الانتماء بنتيجة قطعه عن محيطه المعتاد، وإلى تنامي شعوره السلبيّ بكونه أصبح عبئًا على عائلته ومصدر ازعاج ومحلاًّ للإهمال. هذا بالإضافة إلى فقدانه الحسّ بالحرّيّة والاستقلاليّة وهو من العوامل الأكثر إيلامًا على الإطلاق. هذا إن لم نذكر العنف الجسديّ والكلاميّ وقلّة النظافة والاحترام. تشكّل هذه العوامل النفسيّة مصادر ضغط كبيرة على المسنّ، ما يعلّل نتيجة الدراسة القائلة إنّ نحو 60٪ من المسنّين المقيمين بصورة دائمة في دور الرعاية يتعاطون أدوية الأعصاب بنسب مختلفة. وباختصار، لا بدّ من مقاربة الموضوع من منظار المسنّ نفسه، إذ إنّه غالبًا ما يعتقد أنّ نقله إلى دار العناية هو الخطوة الأخيرة إلى نهاية الطريق، وأنّه يذهب إلى هناك، ليفقد حرّيّته وانتماءه، وليموت!

في مطلق الأحوال، يقتضي لفت النظر إلى وجوب تحضير المسنّ أو المريض الواعي قبل الدخول إلى دار الرعاية، بعد التشاور معه بهذا الخصوص. وبالمقابل يقتضي أيضًا تحضير إدارة الدار لما يتوقّعه المريض منها، لما يحبّه أو يزعجه، إذ قد لا يعلم البعض أنّ ردّ الفعل الأوّليّ لدى المسنّ هو الغضب  المقترن بالحزن والاضطراب، والشكّ بالنسبة إلى الطاقم الطبّيّ وموظّفي الدار والرغبة في العودة إلى المنزل، هذا ما يعكس حالة الضياع التي يعيشها المسنّ بُعيد قبوله في المؤسّّسة. لذا، يبقى أنّه من الواجب ألاّ يُحرم المريض، ما دام واعيًا ومدركًا بالقدر اللازم للقرار، من الحرّيّة في تقرير مصيره. أمّا حرمانه هذا الحقّ، فهو فعل خاطىء ينمّ عن أنانيّة المقرّر وتفضيله نفسَهُ على مسنّ أوكله اللَّه به، وفي هذا تفريط للأمانة لا يُرضي الضمير فكيف يُرضي اللَّه؟

يبقى أنّ دار الرعاية عند الضرورة، لا تعفي الأهل من العناية بالمسنّ أو المريض! ولا تضمن استقالتهم من مهامّهم تجاه المريض أو المسنّ، وإن كانوا غالبًا جدًّا ما يتصرّفون كذلك. هو إن غاب عنهم قسرًا لظروف افتراضيّة، فليس من المحبّة بشيء أن يغيّبوه ويتناسوه وهم يميتونه واقعًا قبل أن يموت!...

ليس صعبًا جدًّا أن يهتمّ الإنسان بشخص غريب معوز. أمّا العناية بالقريب، سيّما متى كان عجوزًا مقعدًا فهي، على بدهيّتها، لا تخلو من مطبّات ومصاعب. لا يتخيلنّ أحد أنّه يكثر في إكرام مسنّه لمجرّد أنّه تركه في بيته! ليس من باب التهويل، بل الخبرة، القول إنّ السواد الأعظم من المسنّين - حتّى في أوساط العائلات المؤمنة الملتزمة - لا يتلقّون في بيوتهم العناية الواجبة والشاملة، أعني بها تلك التي لا تقتصر على مجردّ تقديم بعض الاهتمام المادّيّ والصحّيّ في سياق إبعاد عقدة الذنب وتعيير المجتمع، بل تتعدّى ذلك إلى المحبّة بما فيها من مدلول معنويّ وعاطفيّ ومشاركة في القرار! فكان الأحرى أن يُعهد بهؤلاء إلى دار عناية متخصّص، سيّما متى كان »المنزل« لا يؤمّن لهم عطفًا ومشاركة واهتمامًا معنويًّا.. لا بدّ لنا من أن نعي أنّ احتضان المسنّ في بيته ومحيطه تعهّد والتزام شخصيّ مضنٍ قد يستلزم من المرء صرفًا للمال والوقت والنفس والذهاب بالتضحيات إلى أبعد حدّ. من هو القادر منّا، أو الراغب في التخلّي عن جزء من حياته الاجتماعيّة أو دوام عمله، أو عن كلّ ذلك عند الاقتضاء، محبّةً بمسنّ وخدمةً له!؟ أو من هو الراغب حقًّا في أن يهتمّ بالمسنّ كما بولدٍ أو بزوجٍ؟!

أثبتت الأبحاث أنّ نوعيّة الحياة في المنزل أفضل من دار العناية، وإن كانت متخصّصة جدًّا. هذا يفترض من جهة أولى تأمين العناية الشاملة للمسنّ بصورة صحيحة بالتنسيق مع الطبيب. كما يفترض من جهة ثانية تأمين الدعم اللازم للأهل أو للأشخاص الحاضنين للمسنّ من الناحية النفسيّة والمعنويّة والروحيّة، من المجتمع والكنيسة والطبيب عند الاقتضاء، لأنّ العناية بالمسنّ تفترض التفرّغ شبه الكامل للاهتمام به كما يجب! هذا عمل بدوام أكثر من كامل بحدّ ذاته!

من جهة أخرى، وبعكس ما قد يتصوّر البعض، فإنّ العناية المنزليّة بالمسنّ غالبًا ما تكون أقلّ كلفة من دار عناية متخصّصة بمستوى جيّد. كما أنّها تفيد المسنّ بأن تقدّم له راحةً في دفء بيت يعرفه ومحيط يحبّه ويألفه، ما ينعكس إيجابًا على صحّته النفسيّة والجسديّة في آنٍ واحد. تصديقًا على ذلك، أثبتت الدراسات مثلاً أنّ المرضى الذين يعانون من الخرف يتمتّعون بنوعيّة حياة وتواصل اجتماعيّ أفضل لدى الاهتمام بهم في المنزل.

أضف إلى ذلك أنّ الرعاية المنزليّة تقطع عقدة الذنب عند الأهل والمحيط، وتعفيهم من همّ الزيارات والاستعلامات المتكرّرة والقلق على مستوى العناية بالمسنّ، وعلى أحوال صحّته إذ تضعهم في منزلة المشرف على العلاج بدل المراقب، كما أنّها لا تخرق خصوصيّة المريض ولا تلقيه تحت يأس الشعور بالإهمال وفقدان الحرّيّة. وهذا الاهتمام في كنف العائلة يرأب الصدع المتأتّي عن أيّ خلافات أو أحقاد راكمها الزمن، ويؤالف بين العائلة والمسنّ في جوّ من المحبّة والتسامح.

ربّما أنّ المثل الشعبيّ القائل إنّ المسنّ في البيت بركة، وإنّ الذي لا مسنّ عنده فليشتر مسنًّا، مردّه إلى واقع مفاده أنّ وجود المسنّ في البيت مفيد له وللعائلة في آنٍ واحد. كما أنّه يشكّل درسًا حياتيًّا صامتًا للأولاد بحيث يتلقّنون الرحمة والمحبّة والصبر تلقائيًّا من والديهم، كما يتشرّبون الحكمة بتقرّبهم من المسنّ ويتعلّمون خدمته بمحبّة، ويتغلّبون على أيّ شعورٍ بالنفور أو الخوف قد يراودهم لدى ذكر الموت أو الشيخوخة. في هذا حمل ثقيل جدًّا طبعًا، لأنّ المحبّة تستهلك النفس بطبيعتها وقد لا ترضى بأقلّ من ذلك. من كانت له النيّة والإرادة والوسيلة، فليقدم على هذه الخدمة بفرح ففيها تقديس لنفسه ولعائلته. أمّا من كان غير قادرٍ، فالأجدر به أن يتّضع من دون أن يتعلّل بعلل الخطايا الواهية، وليعمل بمشورة الطبيب والكاهن، مودعًا مسنّه في دور عنايةٍ متخصّصة وموثوقة، آخذًا على ضميره عهدًا أمام اللَّه والناس ألاّ يتركه أو ينساه، وليذهب لزيارته مع العائلة بصورة دوريّة، وليسأل عنه بلهفة المحبّ متعاونًا مع طبيبه بالتنسيق مع الإدارة لما فيه خير المريض من النواحي كافّة.

من ليس له القدرة على أن يحضن مسنّه أو مريضه في قلبه وبيته، فليجعل من دار الرعاية امتدادًا لبيته، وليمدّ قلبه في انعطاف صوب المسنّ بالمحبّة والافتقاد والعناية الفائقة، كيلا يصبح البعيد عن العين بعيدًا عن القلب أيضًا. l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search