الخطبة والزواج
ملاحظات ليتورجيّة
الأب جهاد أبو مراد
مقدّمة
الخطبة احتفال عائليّ، يقام عادة في منزل أهل الخطيبة برعاية الأهل وحضور الأقارب والأصدقاء، وذلك لإعلان رغبة شابّ وفتاة قرّرا التوافق وبناء الثقة وإرساء مشاعر الحبّ بينهما، بقصد الارتباط المستقبليّ في سرّ الزواج. في معظم المجتمعات القديمة، كان الاحتفال يتمّ بناء على توافق العائلات المسبق. دعيت الخطبة العُربون أو العَرَبون ويعني المهر الذي يُقدّم للخطيبة وبخاصّة خاتم الخطبة، الذي كان دائمًا علامة الارتباط الظاهرة ، ودليلاً على الثقة المتبادلة بين الشابّ والفتاة وتأكيدًا على حفظ الأمانة وعدم النكس بالوعود وتمهيدًا للمشاركة الكاملة بالحياة بعد أخذ البركة في سرّ الزواج.
تطوّر الخطبة والزواج
كان المسيحيّون الأوائل يقيمون الخطبة وفقًا للأعراف الاجتماعيّة ويعقدون الزواج وفقًا للشرع المدنيّ الرومانيّ، أو الأعراف القبليّة والعادات الشائعة. وكانت الكنيسة تبارك اتّحادهم وتسمح لهم بالمشاركة في سرّ الشكر وحياة الجماعة، شرط المحافظة على الوصايا والتعاليم الإلهيّة والقواعد الكنسيّة. في القرن السادس شرّع الإمبراطور يوستينيانوس إقامة زواج جديد يتمّ في الكنيسة وأضافه إلى عقود الزواجات التقليديّة السابقة. الكنيسة من جهتها، التي دأبت منذ العصر الأوّل على الاهتمام بالزواج، كما يشهد على ذلك كتاب العهد الجديد، ترجمت اهتمامها عمليًّا، بإسقاط التعاليم الكتابيّة على الواقع الاجتماعيّ الكنسيّ. فالزواج سرّ عظيم، وعلاقة الرجل بالمرأة تتجاوز العلاقة الطبيعيّة المسطّحة، إنّها علاقة بالربّ تتمّ في شركة الجماعة في الكنيسة. الكنيسة أرست أيضًا القواعد الإجرائيّة للزواج ووضعت الأسس اللاهوتيّة للسرّ، إلى جانب النصوص الطقسيّة التي تتلى عند إتمامه. وهكذا حوّلت العقد المدنيّ للزواج، منذ إعلانه في الكنيسة، إلى سرّ يقام في القدّاس الإلهيّ، يسمح به الأسقف ويرأس إتمامه وتشهد عليه الجماعة وتحلّ فيه بركة النعمة الأسراريّة. الخدمة الطقسيّة تبنى بتؤدة وتتطوّر كأسرار الشرطونيّة والعماد والزيت المقدّس وغيرها. في القرن التاسع أصدر الإمبراطور لاون السادس أمرًا بإلغاء عقود الزواج المدنيّ والقبليّ في كلّ أنحاء الإمبراطوريّة البيزنطيّة وشرّع بجعل الكنيسة المرجع الحصريّ الوحيد لعقد زواج كلّ مواطني الإمبراطوريّة. هذا التشريع الذي قيل فيه إنّه نصرٌ لبشارة الإنجيل والبشارة المسيحيّة، أقحم الكنيسة في العالم. فهل كانت الكنيسة مستعدّة لإجراء سرّ الزواج الكنسيّ على الهراطقة، الذين كانت تتكاثر أعدادهم؟ قيل يومها إنّ هؤلاء أصبحوا خارج حدود الإمبراطوريّة... ولكن ماذا عن المسيحيّين الذين تطالهم الموانع الكنسيّة والذين كانت أعدادهم تتكاثر بسبب القوانين الكنسيّة التي كانت تزداد صرامةً؟ المهمّ أنّ موافقة الكنيسة على التبنّي الحصريّ لعقود الزواج، جلب لها جمًّا من المشاكل، ذلك بأنّ الزواج كحقّ شرعيّ، صار رفضه من الكنيسة الخادمة للسرّ، انتقاصًا وخرقًا لحقوق المواطن الأساسيّة. إشارة إلى أنّ الحقّ المدنيّ، كما هو معلوم، قلّما يسائل الإنسان عن الإيمان والالتزام والصيام والممارسات الدينيّة وطهارة العلاقة التي تسبق الزواج وعدد الزيجات والطلاقات وغيرها. هنا بدأت الكنيسة، حفاظًا منها على سرّ الشكر، المساومة والتنازل عن بعض القوانين وباشرت بإخراج سرّ الزواج من رحم سرّ الشكر، سرّ الأسرار، السرّ الحاضن لكلّ أسرار الكنيسة، من الشرطونيّة إلى العماد ، من الميرون إلى الزيت المقدّس ومن الزواج إلى التوبة.
رحلة خروج سرّ الزواج من القدّاس الإلهيّ كانت طويلة ومتدرّجة. فإقامة سرّ الزواج خارج القدّاس الإلهيّ كانت بدأت، »كتدبير كنسيّ« يسمح بإجراء احتفال الملوك بسرّ زواجهم بعد القدّاس الإلهيّ. لكن الزواج هنا كان مرتبطًا بالقدّاس الإلهيّ بواسطة المناولة من القدسات السابق تقديسها. المرحلة الأولى بدأت بالاستنجاد بهذا التدبير الاستثائيّ وتعميمه ومناولة العريسين من القدسات السابق تقديسها »إذا كانا مستحقّين«. وبما أنّ كنائس القسطنطينيّة والمدن الكبرى لم تكن قادرة على تلبية طلبات إجراء كلّ زواج بعد القدّاس الإلهيّ الصباحيّ يوم الأحد، بدأت بإقامتها بعد الظهر.
النصوص الطقسيّة التقليديّة لسرّ الزواج المؤلّفة من ثلاثة أفاشين تقديسيّة مختصرة وبعض الطلبات التي تتلى في أثناء القدّاس الإلهيّ، لم تكن كافية لإقامة خدمة طقسيّة متكاملة خارج القدّاس الإلهيّ. هنا بدأ توسيع الخدمة الطقسيّة وإغنائها بالأفاشين الجديدة والتلاوات الكتابيّة والأناشيد والطلبات والرموز وتوليفها في حلّة جديدة.
طقسا الخطبة والزواج المدوّنان نجدهما لأوّل مرّة، في أقدم مخطوط ليتورجيّ عائد إلى القرن الثامن، مخطوط بربريني 336. تبدأ الخدمتان بالتوسّّع في القرن العاشر، ويمكننا القول إنّ القرن الثاني عشر شهد تشكّل الإطار الطقسيّ العامّ للخدمة، لكنّ التطوّر في كنيسة بيزنطية المحافظة بدا بطيئًا نسبة إلى التطوّر المتسارع الحاصل في مناطق جنوب إيطاليا واليونان وقبرص وأنطاكية وفلسطين. الطقس البيزنطيّ بقي مختصرًا حتّى بعد سقوط القسطنطينيّة. فإفشين الخطبة الحاليّ المطوّل على سبيل المثال: »أيّها الربّ إلهنا يا من رافق غلام رئيس الآباء إبراهيم...« للمخطوط السينائيّ 973 العائد إلى القرن الثاني عشر، نجده في البدء متصدّرًا خدمة الإكليل وليس في مكانه الطبيعيّ في أواخر خدمة الخطبة، ما يؤكّد أنّه إفشين جديد تسرّب حديثًا إلى المخطوط السينائيّ المحلّيّ. إلى ذلك نجد في المخطوطات الكثير من الأفاشين المحلّيّة الأخرى التي بقيت محصورة في مناطق تدوينها ولم تجد طريقها أبدًا إلى الخدمة الموحّدة الموسّّعة. القدّيس سمعان التسالونيكي (+1430) المعبّر الرصين عن التقليد البيزنطيّ، في تفسيره سرّ الزواج، لا يأتي على ذكر الإفشين الطويل للخطبة ولا الإفشينين الطويلين في مطلع الإكليل. وهذا برهان على أنّ هذه الأفاشين، حتّى أواسط القرن الخامس عشر، لم تكن جزءًا من الخدمة الكنسيّة الرسميّة المعتمدة في كنيسة تسالونيكي ولا في نطاق كنيسة القسطنطينيّة.
جرت العادة أن تتمّ الخطبة في بيت العروس، لكنّ آباء الكنسيّة كانوا ينصحون الأهل بإقامتها في القدّاس الإلهيّ، لكي يتحوّل الاحتفال، الذي كان محوره الاتّفاق الشخصيّ أو العائليّ وتقديم المهر، من علاقة اجتماعيّة بين عائلتين إلى علاقة تؤسّّس في الكنيسة، تشهد عليها الجماعة ويكون السيّد له المجد رأسًًا لها. في أواخر القرن الحادي عشر طلب الإمبراطور ألكسيوس كومنينوس من الكنيسة مباركة الخطبة وإسباغ الصفة القانونيّة عليها مبرّرًا طلبه: »بأنّ الصلاة التي تتلى فيها مقدّسة مثل الصلاة التي تتلى في سرّ الزواج«. هكذا تحوّلت الخطبة من اتّفاق عائليّ إلى عقد شرعيّ كنسيّ يتطلّب إجراؤه خدمة كنسيّة، وفسخه إجراءات شبيهة بفسخ الزواج. هذا القرار قاد إلى مشاكل وتعقيدات جديدة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، الخلاف الذي قد ينشب بين الخطيبين ويؤدّي إلى حلّ الخطبة وإعادة المهر. المهر في تلك الأيّام لم يكن محصورًا بالمال والحليّ والأواني الفضيّة التي يسهل استردادها. المهر كان ينسحب أيضًا على الأموال التي أعطيت من أهل العريس وأنفقها أهل العروس أو العكس. وماذا عن المناطق الزراعيّة التي اعتادت أن تقدّم مهرًا من المواشي والغلال الزراعيّة القابلة للاستهلاك أو التلف. هذا بالإضافة الى مشاكل سمعة الخطيبة التي تلطّخت وكبرياء عائلتها والعداوة المريرة التي قد تكون نشبت بين عائلتي الخطيبين. إزاء هذا الواقع المستجدّ بدأت الكنيسة تحاول ضمّ الخطبة الى سرّ الزواج وإقامة الخدمتين في وقت واحد.
العام 1834 قرّر المجمع المقدّس للكنيسة اليونانيّة ضمّ خدمتي الخطبة والزواج وإجراءهما في وقت واحد، والعام 1835 أعاد التذكير بالقرار ومنع الكهنة من إجراء الخطبة الكنسيّة في المنازل أو الكنائس بمعزل عن سرّ الزواج وذلك تحت طائلة العقاب بالتجريد من الرتبة الكهنوتيّة. العام 1943 تبنّى الدستور اليونانيّ قانون الكنيسة، ثمّ أعاد تبنّيه في الدستور الجديد الصادر العام 1977.
قديمًا عندما كان بالإمكان إقامة الخطبة بمعزل عن سرّ الزواج ، كان الخطيبان يتوجّهان إلى الكنيسة في أثناء القدّاس الإلهيّ ويقفان أمام الباب الملوكيّ، الرجل عن اليمين »لأنّ الرجل هو رأس المرأة« (أفسس ٥: ٢٣)، والمرأة عن اليسار »لأنّها خرجت من جنب الرجل« (تكوين ٢: ٢١- ٢٢) و»...لأنّها خلقت من أجل الرجل« (١كورنثوس ١١: ٩). يعطي الرجل الخاتمين إلى الكاهن الواقف على الباب الملوكيّ ومنه يتلو الأفاشين، فيأخذهما ويضعهما على المائدة المقدّسة إلى يمين الإنجيل. ثمّة توافق بين المخطوطات أن يكون خاتم الرجل مصنوعًا من الذهب، أمّا خاتم المرأة فيمكن أن يكون من الفضّة أو الفولاذ أو النحاس. القدّيس سمعان التسالونيكيّ يفضّل أن يكون خاتم الرجل من الفولاذ لأنّه يشير إلى الصلابة والقوّة، وخاتم المرأة من الذهب لأنّه يمثّل نعومة المرأة وطراوتها ( أعمال سمعان التسالونيكيّ، ص. 224). بعد تلاوة الإفشين الثاني للخطبة، يضع الكاهن خاتمي الخطبة في بنصري اليد اليمنى للخطيبين فيتبادلاهما ثلاث مرّات، ثمّ يضمّ يمينيهما للدلالة على توافقهما أمام اللَّه والشعب، ثمّ يختم الصلاة .
وعندما كانت الخطبة تقام مع الإكليل، كانت تتمّ في أواخر القدّاس الإلهيّ في البهو الخارجيّ لمدخل الكنيسة (النارثكس). فبعد مناولة الشعب يخرج الكاهن من الهيكل حاملاً المبخرة، تتقدّمه شمعة مضاءة ويتوجّه غربًا إلى النارثكس حيث يقف الخطيبان والإشبينان مع الأهل والأصدقاء وراء طاولة وُضع عليها الإنجيل والخاتمان. عند وصوله إلى النارثكس يبخّر الإنجيل والشعب ويقدّم للخطيبين شمعتين مضاءتين، ثمّ يطلب موافقة العروسين العلنيّة وتعهّدهما الواضح على المحبّة والمحافظة على سرّ الزواج. ثمّة عهود مدوّنة في المخطوطات، كان الخطيبان يردّدونها بصوت مسموع أمام الكاهن والشعب، منها على سبيل المثال: هل تريد أيّها الابن الروحيّ... أن تأخد الابنة الروحيّة... فتحبّها وتحترمها وتكرّمها على مدى الحياة؟ ويجيب الخطيب: »نعم أيّها الأب المكرّم«. وبعدها يتوجّه نحو الخطيبة ويطلب منها تعهّدًا مماثلاً. وبعد أن يقيم طقس الخطبة كاملاً يقود العروسين إلى صحن الكنيسة لإقامة سرّ الزواج أمام الباب الملوكيّ، وفي الطريق تصدح حناجرالمرنّمين بالمزمور 127 »طوبى لجميع الذين يخافون الربّ ويسلكون في طرقه« المترافق مع عبارة: »المجد لك يا إلهنا المجد لك« المرنَّمة بعد كلّ مقطع. دخول الخطيبين الاحتفاليّ وسطَ الكنيسة يعبّر عن مشاركة شعب اللَّه وتبنّيه سرّ الزواج الذي لم يكن احتفالاً خاصًّا أو عائليًّا، بل احتفال ليتورجيّ عامّ يهمّ الجماعة وتشهد عليه الكنيسة وتفرح بإخوة يتهيّئون لمباركة زواجهما سعيًّا لإنشاء كنيسة البيت وبناء العائلة المسيحيّة.
ثمّة حالات كانت الكنيسة تقيم فيها الخطبة والزواج في مطلع القدّاس الإلهيّ حيث كان الخطيبان يقفان أمام الباب الملوكيّ. فبعد أن يبارك الكاهن العروسين ثلاثًا، يقدّم لهما شمعتين مضاءتين وبعد سماع العهد الزوجيّ وتلاوة الأفاشين، يقيم القدّاس الإلهيّ ويناولهما مع الشعب، إذا وجدا مستحقّين، أو يقدّم لهما الكأس المشتركة.
طقسا الخطبة والزواج
طقس الخطبة كان مختصرًا للغاية، ولا يتضمّن سوى إفشينين، الأوّل لمباركة الخطيبين: »أيّها الإله الأبديّ... أنت بارك أيضًا عبديك هذين وأرشدهما في كلّ عمل صالح...« والثاني لمباركة الخطبة: »أيّها الربّ إلهنا يا من سبق فخطب الكنيسة التي من الأمم... أنت بارك هذه الخطبة وأتّحد عبديك...«. ويرجّح أنّه كان يضمّ بعض الطلبات والإعلانات الليتورجيّة، التي عادة لا يرد ذكرها في المخطوطات القديمة. أمّا الإفشين الثالث الطويل الذي نجده في الخدمة الحاليّة: »أيّها الربّ إلهنا يا من رافق غلام رئيس الآباء...«، فمستحدث ولا يرد ذكره في أيّ مخطوط قبل القرن الثاني عشر، ولم ينتشر إلاّ في القرن الخامس عشر. بعد تلاوة الإفشينين يأخذ الكاهن الخاتمين (المحبسين) ويختمهما ثلاثًا على الإنجيل قائلاً: »باسم الآب والابن والروح القدس...« ثمّ يختم بهما أوّلاً العريس ثلاثًا على شكل صليب قائلاً: »يعربن عبد اللَّه...أمة اللَّه... على اسم الآب والابن والروح القدس«. ثمّ يعربن العروس. بعد ذلك يضع الخاتمين في بنصر يد العريس اليمنى وبنصر يد العروس اليمنى. جرت العادة في بلاد اليونان أن يتقدّم الإشبين/ الإشبينة ويأخذ بيديه الخاتمين من بنصري الخطيبين ويبدّلهما ثلاثًا ويعيدهما إلى البنصرين. في بلاد اليونان أيضًا يضع المتزوّجون الخواتم في اليد اليمنى، لذا لا حاجة لنقلها إلى اليد اليسرى في أثناء خدمة الزواج، كما هو متّبع في بلادنا. تجدر الإشارة إلى أنّه عندما كانت الخطبة تقام من دون أن يتبعها سرّ الزواج، كانت تتلى الطلبة الابتهاليّة الكبرى وتختم الصلاة. ولكن بعد ضمّ سرّ الزواج الى الخطبة نقلت الطلبة إلى آخره. أخيرًا بعد ضمّ الخطبة إلى الزواج، صار الكاهن يستقبل العروسين على الباب الرئيس للكنيسة حاملاً مبخرة وشمعة مضاءة ويسير أمامهما ويقودهما الى مقدّمة الكنيسة على وقع ترنيمة: »افرحي أيّتها الملكة...«، وفي بلاد اليونان، على وقع ترنيمة: »بواجب الاستئهال حقًّا نغبّط...«.
طقس الإكليل الذي يلي الخطبة، مختصر أيضًا. يبدأ بالطلبة السلاميّة الكبرى، يليها إفشين ضمّ يميني العروسين، الإفشين الثالث من الخدمة الحاليّة: »أيّها الإله القدّوس... أنت أيّها السيّد أرسل الآن أيضًا يدك وأقرن عبديك... لأنّ منك اقتران المرأة بالرجل، وضمّهما باتفاق العزم وكلّلهما ليصيرا جسدًا واحدًا...«. وعند تلاوة عبارة »ضمّهما باتفاق العزم« يقترب من العروسين ويضمّ يمينيهما، وعند نهاية الإفشين يأخذ الإكليلين بيمينه ويختم العريس ثلاثًا على شكل صليب قائلا في كلّ مرّة: »يكلّل عبد اللَّه... بأمة اللَّه... على اسم الآب والابن والروح القدس. أمين«. ثمّ ينتقل إلى العروس فيختمها ثلاثًا ويعيد العبارة التي تلاها على العريس، ذاكرًا اسم العروس قبل اسم العريس. وبعد وضع الإكليلين على رأسي العروسين، يباركهما رافعًا يديه وراسمًا بهما شكل صليب، فيأخذ بأصابع يده اليمنى إكليل العريس وباليسرى إكليل العروس ويبدّلهما ثلاث مرّات، فيما يرنّم باللحن السابع: »أيّها الربّ إلهنا بالمجد والكرامة كلّلهما« (مزمور٢٠: ٥) أو (مزمور ٨: ٥ ب) التي يعيدها المرنّم مرّتين ويتلو قبلها عبارتين من المزمور (20، 3ب- 4) هما: وضعت على رأسه إكليلاً من حجر كريم... وحياة سألك فأعطيته. أمّا اليوم، فتقال العبارتان كبروكيمنون للرسائل.
ثمّة مراجع تؤكّد أنّ المزمور 20 كان يتلى كاملاً مع ترنيم لازمة »بالمجد والكرامة كلّلهما« بعد تكليل العروسين. وثمّة شهادات من القرن 15 تشير إلى أنّ المرنّم كان يضيف... وعلى أعمال يديك أقمته« (مزمور ٢٠: ١٦أ). بعد القرن الخامس عشر جرى إلغاء المزمور وضُمّت عبارة »أيّها الرب إلهنا« إلى لازمة المزمور القديمة »بالمجد والكرامة كلّلهما« وصارت العبارة الجديدة ترنّم ثلاث مرّات بعد التكليل مباشرة، بصيغة المثنّى وبقيت هكذا حتّى يومنا الحاضر.
الإفشين الثاني: »أيّها الربّ إلهنا يا من بتدبيره الخلاصيّ...«، نجده في الإفخولوجيّات المعاصرة مدوّنًا بعد تلاوة الرسائل والإنجيل. إنّه الإفشين الثاني الأساس للعرس الذي كان يتلى مباشرة بعد الإفشين الأوّل عندما كانت التلاوات الكتابيّة والطلبة الابتهاليّة غائبة عن العرس. مترافقًا مع إحناء الرؤوس.
الإفشين الثالث لمباركة الكأس المشتركة: »أيّها الإله الذي صنع كلّ الأشياء بقدرته...« ينتمي إلى المرحلة الثانية (القرن 11- 12)، التي بدأ فيها سرّ الزواج يتسرّب مبتعدًا عن القدّاس الإلهيّ. في مخطوط عائد إلى القرن الثاني عشر نقرأ أنّ الكاهن يضع كأسين من الخمرة أمام العروسين، ويتلو المزمور 75: »إيّاك نحمد يا اللَّه...«. وعندما يتلو عبارة: »لأنّ بيد الربّ كأسًًا مملوءة خمرة قويّة ممزوجة يديرها من هذا إلى ذاك«، يمزج الكأسين ويسلّمهما للإشبينين لتقديمهما إلى العروسين«. مزج الخمرة وشرب الكأس رمز إلى المشاركة في الخيرات وأفراح الحياة. في مخطوطات أخرى نجد الكاهن يطلق أمنيات شبيهة بما يردّد في أواخر الخدمة الحاليّة: »يعظّمك اللَّه أيّها العريس مثل إبراهيم وينمّيك مثل يعقوب...«. في أثناء مناولة العروسين من الكأس المشتركة، ينشد المرنّم كينونيكون »كأس الخلاص أقبل وباسم الربّ أدعو« (مزمور ١١٥: ٤) باللحن الأوّل المطوّل (أنانيس). هذا الكينونيكون هو خير شاهد على أنّ الإكليل بالأساس كان يتمّ في القدّاس الإلهيّ. فهو من أقدم كينونيكونات القدّاس الإلهيّ وكان يرنّم كلازمة للمزمور 74 الذي مطلعه: »إيّاك نحمد يا اللَّه...« والذي كان يرنّمه الشعب أنديفونيًّا باللحن الأوّل عند المناولة. وما زال إلى يومنا يرنّم في أعياد السيّدة العذراء.
الإفشينان الأوّلان الطويلان لخدمة سرّ الزواج: »أيّها الإله الطاهر« و»مبارك أنت أيّها الربّ إلهنا...« المتشابهان بطولهما وبتكرار تعابيرهما وكثافة الصور المستلهمة من العهد القديم، ينتميان إلى المرحلة الثالثة من تطوّر طقس الإكليل، ويرجّح أنّهما وضعا بعد القرن الثاني عشر في جنوب إيطاليا وانتشر استعمالهما بدءًا من القرن الخامس عشر.
التلاوات الكتابيّة الحاليّة من رسائل وإنجيل التي سبقتها تلاوات أخرى مختلفة، تنتمي الى مرحلة التسرّب الكامل للخدمة من نطاق القدّاس الإلهيّ. دخول الرسائل إلى طقس الزواج أدخل معها الأليلواريون، أي إنشاد الليلوييا ثلاث مرّات باللحن الخامس المطوّل، مع إستيخونين من المزمور 11، 7. »أنت يا ربّ تحفظنا وتسترنا من هذا الجيل« و11، 1 »خلّصني يا ربّ فإنّ البارّ قد فني«.
بعد مناولة الكأس المشتركة يقدّم الكاهن إلى العروسين شمعتين مضاءتين ويتصدّر موكب المحتفلين بالعرس، ويعلن: »لنخرج بسلام«، ثمّ يختم العروسين بالقول: »إفرحوا بالربّ«. وتبدأ مسيرة الذهاب إلى الخدر الزوجيّ. وفي الطريق ترنّم الأناشيد الكنسيّة التي تذكر المخطوطات عددًا كبيرًا منها. أذكر على سبيل المثال قنداق عيد دخول السيّدة إلى الهيكل: »إنّ الهيكل الكلّيّ النقاوة... اليوم تدخل إلى بيت اللَّه وتدخل معها النعمة التي بالروح الإلهيّ...«. يا إشعيا إطرب متهلّلاً... وثيوطوكيّات الألحان الثمانية وغيرها. وعند وصول الموكب إلى منزل العريس، يدخل الكاهن والعروسان والأهل إلى المخدع الزوجيّ ويتلو الكاهن إفشين رفع الأكاليل، ثمّ يرفعهما ويضعهما على السرير، لتبدأ الأفراح.
أمّا في الطقس الحاليّ، فبعد المناولة من الكأس المشتركة، يشبك العروسان والإشبينان الأيادي، ويأخذ الكاهن بيد الإشبين، وعلى أنغام أناشيد الفرح يدورون حول الطاولة ثلاث مرّات. الطروباريّات الثلاث المرنّمة مستعارة من طقس الشرطونيّة وترنّم إلى يومنا بالشكل التالي: الأولى باللحن السابع »أيّها الشهداء القدّيسون...« (شهوديّة)، والثانية باللحن السابع »المجد لك أيّها المسيح الإله...الذين كرازتهم بالثالوث المتساوي في الجوهر« (ثالوثيّة). والثالثة باللحن الخامس »يا إشعيا إطرب متهلّلاً لأنّ البتول قد حملت في أحشائها وولدت ابنًا...« (ثيوطوكيّون - والديّة). في الإكليل ترنّم أوّلاً طروباريّة: »يا إشعيا إطرب متهلّلاً...«. الترجمة الحرفيّة للعبارة هي: »يا إشعيا ارقص، لأنّ البتول حملت...«. فإشعيا هو الذي تنبأ بولادة المخلّص من البتول، ورقص ابتهاجًا، وذكر البتول التي ولدت المخلّص يشير إلى أحد أهداف الزواج. وإذا أضفنا إلى ذلك جمال النغم والسرعة في أدائه المحبّب، فكلّ هذه الأسباب ساهمت في جعل هذه الطروباريّة فاتحة الأفراح التي لن تقتصر على الكنيسة.l