2013

7. من أجل حياة العالم: بالمجد والكرامة كلّلهما - الأب جهاد (أبو مراد) – العدد السابع سنة 2013

 

‫…بالمجد والكرامة كلّلهما

الأب جهاد أبو مراد

 

 

منذ العصر الرسوليّ وحتّى مطلع القرن السادس، كانت كلّ عقود الزواج عند المسيحيّين والوثنيّين تتمّ وفقًا للشرع المدنيّ، وكان المهتدون الجدد، أو من شاء منهم، يأتي إلى الكنيسة، فيعلن زواجه المدنيّ، ويشارك في القدّاس الإلهيّ، فتباركه الكنيسة، وتفرح معه، وتتعهّد حياته الجديدة، وتعمل على رعايته وهدايته، ليدرك أنّ الزواج المسيحيّ سرّ، والعلاقة بين الزوجين طاهرة وخالية من العيب. الآباء الرسوليّون أولوا الزواج الأهمّيّة التي يستحقّها، فكرّسوا له حيّزًا كبيرًا من اهتمامهم وتعمّقوا في تفسيره من أجل أن »يكون بالربّ وليس بحسب الرغبة« ( إغناطيوس المتوشّح باللَّه). الآباء الرسوليّون تكلّموا على  الزواج والتبتّل، وزواج المسيحيّين بالوثنيّين واليهود والهراطقة، وموانع الزواج بين الأقارب، والطلاق وزواج المطلّقين، وعلى الإنجاب وتربية الأطفال، والسنّ القانونيّة التي يسمح فيها بزواج الشاب، أو الفتاة، وأعطوا رأيًا في الأزمنة التي يجوز فيها الزواج أو لا يجوز، عملاً بقول بولس في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس ٧: ٥. هذه المواقف الآبائيّة من موضوع الزواج ومتفرّعاته وغيرها الكثير، تتحوّل منذ منتصف القرن الثاني، إلى مواقف كنسيّة معروفة وثابتة، وتقاليد رسوليّة، وقوانين مجمعيّة، يجب على المؤمنين الذين تزوّجوا مدنيًّا المحافظة عليها لنيل الخلاص، وليُحسبوا أعضاء في الكنيسة. وبينما كانت القوانين الكنسيّة والمجمعيّة تزداد جيلاً بعد جيل، أظهرت الكنيسة مرونة لافتة في تعاملها مع المؤمنين، ولكن، بعد انتهاء الاضطهادات وإعلان الحرّيّة الدينيّة العام 312، بدأت تطلب تطبيق القوانين الكنسيّة بحذافيرها على جميع المؤمنين.

الزواج في القرن السادس

العام 537 للميلاد، شاء الإمبراطور البيزنطيّ يوستينيانوس أن يجعل الزواج الكنسيّ الذي تقيمه الكنيسة، مساويًا للزواج المدنيّ الشرعيّ. فأصدر مرسومًا حدّد فيه التالي: »بعد إجراء سرّ الزواج الكنسيّ، يحضر الزوجان أمام القاضي المدنيّ، يرافقهما ثلاثة أو أربعة شهود من العلمانيّين والكهنة. وبعد التأكّد من إجراء الزواج »وفقًا للقوانين الكنسيّة«، يصـدر القاضي وثيقة خاصّة، ويوقّعها مع الزوجين والشهود« (نيارا رقم 74 الفصل الرابع. ب. رودوبولس. دراسات قانونيّة، رعائيّة وليتورجيّة ص 217). المرسوم الجديد لم يلغ عقدي الزواج التقليديّين في بيزنطية، بل أضاف إليهما عقدًا ثالثًا هو الزواج الكنسيّ. وهكذا صارت الزواجات شرعيّة أوّلاً: إذا جرت أمام القاضي بعقد مدنيّ. ثانيًا:  إذا جرت بعهد شفهيّ أمام العائلة أو الأصدقاء، وثالثًا: إذا جرت في الكنيسة وسجّلت حسب الأصول.

الإمبراطوران لاون الثالث وابنه قسطنطين الخامس، في القرن الثامن، يعيدان التأكيد على تشريع يوستينيانوس الذي يجيز عقود الزيجات الثلاثة، ويذكّران بموافقة الزوجين العلنيّة المسبقة أمام الشهود والكهنة. للمناسبة، أذكّر بأنّ التقليد الأرثوذكسيّ كان يفرض على المقدمين على الزواج إعلان موافقتهما العلنيّة وعلى رغبتهما بالاتّحاد والمحبّة والاحترام المتبادل والتعاون إلخ...، قبل البدء بخدمة الإكليل، والمخطوطات شاهدة على ذلك. الإمبراطور باسيليوس الأوّل المكدونيّ (+886)، أصدر تشريعًا مماثلاً ذكّر فيه بالزواجين الكنسيّ والمدنيّ الشرعيّين، وأمر بإتمامهما بشفافيّة وعلانيّة وبحضور شهود (أشابين)، مشدّدًا على موافقة الزوجين المسبقة، ومعتبرًا إيّاها شرطًا أساسيًًّا لإجراء أيّ زواج. اللاّفت، في تشريع باسيليوس، أنّه ألغى الزواج العائليّ من لائحة الزيجات الشرعيّة. والإمبراطور ألكسيوس كومنينوس، العام 1084، طلب من الكنيسة مباركة زواج العبيد ومباركة الخطبة لاعتبارها »أنّها مساوية للزواج لأنّ فيها تتلى الأفاشين المقدّسة«.

نلاحظ أنّ الكنيسة في كلّ هذه المرحلة كانت تعترف بالزواج المدنيّ بكلّ أشكاله. وبعد إتمامه وفقًا للأصول المقبولة مدنيًّا، كانت تقيم سرّ الإكليل للمسيحيّين للمؤمنين الذين يطلبونه ولا تطالهم الموانع الكنسيّة. الكنيسة، أيضًا، لم تطالب السلطات المدنيّة بفرض الزواج الكنسيّ على رعايا الإمبراطوريّة البيزنطيّة، ولم تعترض  على عقود الزواج المدنيّة أو الكنسيّة، ولم تفرّق بينها شرط أن يحافظ المتزوّجون على التعاليم المقدّسة.

الزواج في القرن التاسع.

في أوائل القرن التاسع، كان الزواج يتمّ في القدّاس الإلهيّ. نيكيفوروس المعترف بطريرك القسطنطينيّة (806- 815) يؤكّد أنّ الزواج يتمّ في خدمة ليتورجيّة. وفي القانون 34 يتكلّم على زواج مع بركة كنسيّة يقام في أثناء خدمة خاصّة بسرّ الإكليل، وينصح الكنيسة بألاّ تقبل تقدمة الذين لم يتخلّوا عن العشيقات، ولم يقدموا على شرعنة علاقاتهم بالزواج الكنسيّ، لأنّ تقدمتهم احتقار لتقليد الكنيسة ومبادئها (كونستانديلو. الزواج، الجنس والبتوليّة ص 65). ثيوذورس الستوديتيّ (759- 826)،  ينقل إلينا أنّ العروسين، كانا يقفان في النارتكس (مدخل الكنيسة)، وبعد مناولة المؤمنين في أواخر القدّاس الإلهيّ يدخلان إلى صحن الكنيسة، فتتمّ تلاوة أفاشين العرس ثمّ يتناولان من القدسات السابق تقديسها: »إنّ جسد المسيح ودمه المقدّس الواحد هو رأس الزواج ونهايته«، كان القدّيس يردّد، وهو القائل: إنّ الكهنة  يباركون الزواج، والأكاليل رمز لطهارة البتوليّة وللنصر على الخطيئة. وكان العرس في أيّامه مرتبطًا بسرّ الشكر. ونجد في مؤلّفاته إفشينًا لضمّ يدي الزوجين قبل وضع الأكاليل على الرأسين، شبيهًا بإفشين مخطوط بربريني 336، العائد إلى القرن الثامن: »أيّها الإله القدّوس يا من جبل الإنسان من التراب وابتنى من جنبه امرأة...«. يقول الستوديتيّ، في أوّل نصّ كامل »لإفشين ضمّ اليدين« كان يتلى أمام »الحاضرين في الكنيسة في قدّاس يوم الأحد«: »أنت أيها السيّد أرسل يدك من مسكنك المقدّس وأقرن عبدك... بعبدتك.... ضمّهما باتّفاق العزم. اتّحد من ارتضيت أن يتكلّلا إلى جسد واحد. أظهر الزواج مكرّمًا  واحفظ المضجع  بلا دنس، وارتض أن تكون حياتهما بلا عيب« PG99,937.

التشريع البيزنطيّ، بدءًا من القرن السادس، يتنازل شيئًا فشيئًا عن الحقوق المدنيّة في مسائل الزواج لصالح الكنيسة، لكن المواطن كان ما زال باستطاعته الاختيار بين الإكليلين الكنسيّ والمدنيّ (مايندورف. الزواج... ص. 26). بعد مرور أكثر من ثلاثة قرون على قرار يوستينيانوس، أصدر الإمبراطور لاون السادس الحكيم، العام 893، مرسومًا جديدًا نشر في مجلّة نيارا رقم 89، جعل فيه الكنيسة مسؤولة عن عقد كلّ زواج يتمّ في أرجاء الإمبراطوريّة. نصَّ القانون: »الزواج الشرعيّ الوحيد هو الذي تباركه الكنيسة، وكلّ عقد زواج آخر يتمّ خارجها أو بدون علمها يعتبر بحكم الملغى«. وبعد تحوّل المرسوم إلى بند من الشرع المدنيّ البيزنطيّ أصبح عقد الزواج الكنسيّ هو العقد الشرعيّ الوحيد في كلّ أرجاء الإمبراطوريّة، وبقي ساري المفعول، مع بعض الإضافات، حتّى سقوط القسطنطينيّة العام 1453.

يبدو أنّ انتقال عقود الزواج والطلاق، بقرار إمبراطوريّ، من المرجعيّات المدنيّة وحصرها بالمرجعيّات الروحيّة، جاء مفاجئًا. فالمرسوم الجديد كانت له تأثيرات سلبيّة في علاقة سرّ الزواج بسرّ الشكر (راجع: فونتوليس م. س. ص. 234). فمن سرّ إلهيّ تمنحه الكنيسة للمستحقّين والمتأهّلين روحيًّا، تحوّل إلى عقد إلزاميّ يجب إعطاؤه إلى كلّ طالب. ولكن كيف تتصرّف الكنيسة تجاه موانع مناولة غير المستحقّين التي كانت تتزايد مع تقدّم الزمن؟ وهل تُعطى المناولة في الزواج الثاني، والقوانين الكنسيّة تنصّ صراحة على منع المتزوّجين ثانية، من المناولة  لسنتين، والمتزوّجين ثالثة، لخمس سنوات. وماذا تفعل في الزواجات المختلطة بين الأرثوذكسيّ وغير الأرثوذكسيّة او زواجات الهراطقة؟ وإذا تساهلت في مسألة زواج الهرطوقيّ من فتاة أرثوذكسيّة، فأين يُجرى الإكليل؟ وهل يجوز أن تمنح المناولة لهرطوقي؟ أمّا بالنسبة الى الأرثوذكسيّين، فهل تناول الكنيسة العروسين غير الصائمين وغير الممارسين كنسيًّا، في الوقت الذي كانت المواقف من المخالفين للوصايا الإلهيّة والمتهاونين روحيًّا تزداد صرامة؟ وماذا تفعل بنظريّات وقوانين طهارة النساء ؟ ونقاوة العلاقة بين الشابّ والفتاة قبل الزواج؟ هل تزوّج العبيد وهم لا يتمتّعون بأبسط الحقوق المدنيّة وبخاصّة لحرمانهم الإرادة الذاتيّة وحقّ قبول الزواج أو رفضه؟ الآن صارت الكنيسة مضطرّة  إلى المساومة والتنازل، يقول الأب ديمتريوس (تزيربوس):  »صحيح أنّ الواقع القانونيّ بعد العام 893 سهّل العمل البشاريّ والرعائيّ بشكل عامّ، لكنّه تحوّل أيضًا إلى عامل حاسم في فصل سرّ الزواج تدريجيًّا عن سرّ الشكر وإنشاء خدمة طقسيّة مستقلّة للعرس تقام خارج القدّاس الإلهيّ. بهذه الطريقة دافعت الكنيسة عن سرّ الشكر، ونأت بنفسها بعيدًا عن تأثير العالم الذي أُقحم في وسطها قسرًا، بواسطة سرّ الزواج. فالكنيسة من الآن وصاعدًا، صارت مضطرّة، بالواقع، إلى مباركة زواجات المؤمنين الملتزمين وغير المؤمنين...« (التجدّد الليتورجيّ، أثينا 2001، ص. 148). ويقول الأب (شمايمن): »إنّ اعتراف السلطة المدنيّة بالكنيسة »كخادمة« للزواج ، كان خطوة نحو »نزع الطابع الأسراريّ« عن سرّ الزواج. وإنّ الفصل بين سرّ الزواج وسرّ الشكر لإشارة صريحة إلى ذلك (ألكسندر (شمايمن)). من أجل حياة العالم. عرّبه الإرشمندريت توما (بيطار)، 1994، ص. 125). نستنتج ممّا تقدّم أنّ الخدمة الطقسيّة المستقلّة لسرّ الزواج بدأت تتشكّل عندما بدأت العلاقة بين سرّي الشكر والزواج تتفكّك.

بدأ سرّ الزواج رحلة التسرّب والخروج من القدّاس الإلهيّ، لأسباب عمليّة ولأسباب لها علاقة بالتقاليد الموروثة. الأسباب العمليّة تتلخّص في تكاثر عدد الأعراس في كنائس القسطنطينيّة المحدودة العدد عادت غير قادرة على خدمتها في قدّاس يوم الأحد أو العيد، فبدأت بتأجيلها إلى ما بعد القدّاس الإلهيّ. أمّا الأسباب التقليديّة، فإنّ معظم التقاليد القديمة كانت تعتبر احتفال العرس وما يصحبه من غناء ورقص وأفراح، ومشاركة جماعيّة في موائد الطعام، هي المكان الذي يتمّ فيه عقد الزواج. ولمّا كانت الاحتفالات تنتهي بمرافقة العريس إلى المخدع الزوجيّ في منتصف الليل: »ها هوذا الختن (العريس) يأتي في نصف الليل...«، فإنّ المؤمنين كانوا يفضّلون إقامة زواجهم بعد ظهر يوم الأحد. وبما أنّ المناولة من القدسات السابق تقديسها تجوز في أيّ وقت، جرى اعتمادها كحلّ وسط أوّلاً في احتفالات تنصيب الملوك بعد القدّاس ثمّ في احتفالات زواجهم. وبعد خروج سرّ الزواج من القدّاس الإلهيّ، صار سهلاً إقامته في أيّ وقت. لكن سرّ الزواج، الذي بدأت خدمته تتوسّّع وتغتني بصلوات وأناشيد جديدة، وصارت تعتبر خدمة مستقلّة شبيهة بباقي الأسرار، حافظ حتّى القرن الخامس عشر، على الأقلّ، بقي على صلة وثيقة بخدمة سرّ الشكر. فتارة نجده يتمّ في رحم القدّاس الإلهيّ، ومناولة العروسين مع الشعب، أو مناولتهما على انفراد من القدسات السابق تقديسها في آخر القدّاس الإلهيّ. وطورًا كان يجرى في آخر القدّاس أو في أيّ وقت آخر، مع مناولة القدسات السابق تقديسها أو الاكتفاء بالكأس المشتركة. اللاّفت أنّ بركة الكأس المشتركة كانت قائمة في كلّ حال، وكان العروسان يتناولان منها، حتّى ولو حضرا القدّاس الإلهيّ وتناولا الجسد والدم الكريمين.

متاعب الكنيسة بدأت في وقت مبكر من جرّاء مرسوم 893. ينقل إلينا التاريخ أنّ الإمبراطور لاون السادس نفسه، الذي كان تزوّج ثلاث مرّات وعجز عن إنجاب وليّ للعهد، طلب إلى بطريرك القسطنطينيّة نيقولاوس ميستيكوس (٩٠١- ٩٠٧، ٩١٢- ٩٢٥) الموافقة على عقد زواج رابع، لكنّ البطريرك أبى النزول عند رغبة الإمبراطور لئلاّ يخالف قوانين الكنيسة. عندها استنجد الإمبراطور ببابا رومية سرجيوس الثالث، فدعاه إلى القسطنطينيّة، فجاء وبارك زواج الإمبراطور الرابع، ضاربًا بعرض الحائط كلّ القوانين ومخالفًا كلّ الأعراف الكنسيّة. وهكذا دفع البطريرك القسطنطينيّ ثمن تمسّكه بالقوانين الكنسيّة، إبعادًا عن السدّة البطريركيّة (ب. ستيفانيدس. تاريخ الكنيسة. 1990. ص. 369 ).

مخطوط بربريني. في أقدم مخطوط ليتورجيّ أرثوذكسيّ من القرن الثامن، نتعرّف إلى أوّل خدمتين طقسيّتين للخطبة  والعرس (بربريني 336.   J. Goar: Euchologion sive Rituale Graecorum 1730. New edition Graz 1960. pp 312- 313. 321-322). تتألّف الخدمة من جزئين منفصلين، الجزء الأوّل للخطبة والثاني للزواج. يتألّف الجزء الأوّل من الإفشينين الأساسين الأقدمين:

أ- إفشين الخطبة »أيّها الإله الأبديّ، الجامع المتفرّقات إلى اتّحاد واحد...« (راجع: كتاب مختصر الإفخولوجي. دمشق 1964. أعيد طبعه في طرابلس العام 1989. ص. 106)

ب- إفشين إحناء الرؤوس »أيّها الربّ إلهنا، يا من سبق فخطب الكنيسة التي من الأمم...«.

ويتألّف الجزء الثاني من:

أ- الطلبة السلاميّة الخاصّة بالعرس

ب- إفشين ضمّ يدي العروسين »أيّها الإله القدّوس، يا من جبل الإنسان من التراب...« (ص. 121)

ج- وضع الإكليلين على الرأسين

د- إحناء الرؤوس

هـ إفشين »أيّها الربّ إلهنا، يا من ارتضى أن يظهر العرس مكرّمًا...« (ص. 127)

و- إفشين الكأس المشتركة »أيّها الإله الذي صنع كلّ الأشياء بقدرته« (ص. 130)

ز- المناولة

ح- الحلّ

(المرجع: المتقدّم في الكهنة قسطنطين كارايساريذس. التطوّر التاريخيّ لطقسيّ الخطبة والزواج حتّى مخطوط بربريني 336- القرن الثامن. سلسلة المكتبة الرعائيّة 9. محاضرات المؤتمر الليتورجيّ الرابع، برعاية المجمع المقدّس لكنيسة اليونان. 2002 . ص. 205).

يستند الكاتب إلى طبعة جديدة لمخطوط بربريني 336 أعدّها، وترجمها من اللغة اليونانيّة إلى اللغة الإيطاليّة الباحثان ستيفانو بارنتي وإيليني فيلكوفسكا، وصدرت في روما العام 2000. في مقابلة مع مخطوط بربريني 336 الأصليّ الذي أعيد إصداره مصوّرًا في غراتز العام 1960، وجدتُ أن الفقرات أ- و، متطابقة ما عدا فقرة ضمّ اليدين الوارده في مخطوط بربريني 336 ص. 321. أمّا الفقرة ز- المناولة،  فلم أجد سوى بركة للكأس المشتركة »أيّها الإله الذي صنع كلّ الأشياء بقدرته«، والكأس المشتركة  تحتوي، كما هو معلوم، خمرًا عاديًّا يبَارَك بالإفشين الذي يتلوه الكاهن. يعتقد الباحث الليتورجيّ ب. سكالتسيس أنّ الكأس هنا يجب أن تكون شكريّة، من القدسات السابق تقديسها، بخاصّة وأنّ الفقرة ز- المناولة  كما يقول- تُقرأ: بعد آمين، تعطى المناولة المحيية ويتمّ الحلّ (دراسات ليتورجيّة1، تسالونيكي 1999، ص.121). أمّا الفقرة الأخيرة  ح- الحلّ، فغائبة في مخطوط بربريني. وبما أنّ هذه الخدمة المصغّرة تخلو من القراءات الإنجيليّة، فهذا يقودنا إلى الاستنتاج أنّها تنتمي إلى المرحلة، التي كان العرس يتمّ في القدّاس الإلهيّ، والمناولة كانت تتمّ مع المؤمنين، وعند حلّ القدّاسّ الإلهيّ كان العروسان يشربان الكأس المشتركة. وفي الحالات التي كان الزواج يجرى بعد القدّاس الإلهيّ، كان العروسان المستحقّان، يتناولان من القدسات السابق تقديسها ثمّ يشربان الكأس المشتركة. (يوحنّا فونتوليس، مواضيع ليتورجيّة، أثينا 2002، ص. 232). لا شكّ في أنّ خدمة بربريني تعطينا صورة واضحة عن بنية سرّ الزواج وتطوّره في القرن الثامن، وهي نتاج تطوّر بطيء تمّ في الكنيسة على مدى عصور طويلة، وكان يتمّ دائمًا في سرّ الشكر.

المخطوط السينائيّ رقم 958، (القرن العاشر). أوّل وصف كامل لإتمام العرس مع المناولة من القدسات السابق تقديسها نجده في هذا المخطوط. فلأوّل مرّة نجد وصفًا للكاهن والشمّاس الواقفين في الهيكل، أمام المائدة المقدّسة، وقد وضعا عليها الكأس المقدّسة للمناولة والإكليلين، أمّا العريس والعروس، فكانا يقفان أمام الأبواب. بعد الطلبة السلاميّة للعرس، يتلى إفشين ضمّ العروسين (الإفشين الثالث من الخدمة الحاليّة)، يليه إفشين ثان طويل، مطلعه »يا إله السماوات يا ربّ الأنوار...« (ب. ترمبلاس، الإفخولوجي الصغير، ص. 88)، ثمّ الإفشين الأوّل الطويل من الخدمة الحاليّة، الذي أصبح اليوم بحكم الملغى: »أيّها الإله الطاهر الخالق كلّ البرايا« (مختصر الإفخولوجي ص. 115). بعد ذلك يكلّل الكاهن العروسين بعد ختمهما ثلاثًا، وفيما يضع الإكليلين يقول: »وضعت على رأسيهما إكليلاً من حجر كريم« (مزمور 20: 3) و»بالمجد والكرامة كلّلت قدّيسيك« ( مزمور 8: 5). هنا تُضمّ يدا العروسين، وليس كما كان متّبعًا في السابق، حيث إنّ الضمّ كان يتمّ قبل وضع الإكليلين. ثمّ يتلى إفشين إحناء الرؤوس »أمدد يدك أيّها الربّ...«. الرسائل (عبرانيّين ١٢: ٢٨- ٢٩ و١٣: ١- ٨)، والإنجيل المعتاد من يوحنّا ( آية تحويل الخمر في قانا الجليل). بعد الطلبات والصلاة الربّانيّة وإفشين الكأس، يتناول العروسان من القدسات السابق تقديسها. الشمّاس: لنصغ. الكاهن: القدسات السابق تقديسها للقدّيسين. يلي ذلك الكينونيكون »كأس الخلاص أقبل...« وإعطاء »المناولة المحيية«، ثمّ إفشين الكأس المشتركة »أيّها الربّ إلهنا يا من باركت كأس رسلك القدّيسين...« ويعطى الكأس للعريس أوّلاً ثمّ للعروس ويعاد إلى العريس لإكمال المحتوى. تنتهي الخدمة بإعادة شبك يدي العروسين. اللافت، في هذا المخطوط، أنّ العروسين يتناولان من القدسات السابق تقديسها، في أثناء الخطبة أيضًا، التي كانت تتمّ في وقت سابق للزواج. فبعد إلباسهما الخاتمين، يقول الشمّاس: لنصغ، فيرفع الكاهن الكأس قائلاً: القدسات السابق تقديسها للقدّيسين. وبعد المناولة يقول الشمّاس: إذ قد تناولنا أسرار المسيح الإلهيّة المقدّسة الطاهرة...، ويباركهما الكاهن ويعلن الحلّ.

المخطوط السينائي رقم 973. التقليد المخطوط للقرن الثاني عشر، ما زال يؤكّد إجراء سرّ الزواج في القدّاس الإلهيّ، ومشاركة كاملة في مناولة جسد الربّ ودمه الكريمين. ففي الجزء الأوّل من القدّاس الإلهيّ، من »مباركة هي مملكة الآب والابن والروح القدس...« حتّى الدخول الصغير، تتلى أفاشين العرس ويوضع الإكليلان على رأسي العروسين. وفي نهاية القدّاس الإلهيّ، في أثناء مناولة الشعب، يتناول العروسان، ويختم القداّس الإلهيّ. لكنّ المخطوط السينائيّ يحتوي أيضًا، على خدمة ثانية للزواج، مع مناولة القدسات السابق تقديسها: »توضع الأكاليل على المائدة المقدّسة مع كأس المناولة الكريمة«. بعد القراءات والطلبات، يتابع النصّ: »يبدأ القدّاس الإلهيّ. وعندما يحين وقت المناولة، يُعطى العروسان القدسات الشريفة ( = السابق تقديسها). وبعد ختم القدّاس الإلهيّ، يجلب الكاهن كأسين، ويضع فيهما خمرًا... ويتلو إفشين الكأس »يا مخلّص المسكونة...«. فيتقدّم الإشبينان، ويحملان الكأسين ويقدّمانهما إلى العروسين فيشربان منهما« (لنصّ الإفشين الكامل، راجع، ب. ترمبلاس، الإفخولوجيّ الصغير، الجزء 1، الطبعة الثانية، أثينا 1998، ص. 99). 

مخطوط المكتبة الوطنيّة اليونانيّة 724، القرن 14- 15. ينقل ي. فونتوليس عن المخطوط ملاحظة تسبق خدمة إكليل يتمّ في القدّاس الإلهيّ، مطلعها: »إذا حضر عروسان إلى القدّاس الإلهيّ، وكانا مستحقّين للمناولة...«، فبعد إعلان: »بخوف اللَّه...« يتناولان. وبعد إفشين المنبر: »يا ربّ، يا من تبارك الذين يباركونك...«، يقول الكاهن أيضًا أفاشين بركة (العرس) حتّى النهاية، و»ليكن اسم الربّ مباركًا«... وإذا لم يكن هناك قدّاس إلهيّ وليسا مستحقّين للمناولة، (يقيم الكاهن خدمة الإكليل) وبعد الطلبة الابتهاليّة »لنكمّل طلبتنا للربّ...« يتلو إفشين الكأس المشتركة (ويناولهما). إلى ما تقدّم، يتكلّم فونتوليس، عن حلّ ثالث يتمثّل بإقامة القدّاس السابق تقديسه، حيث يتناول العروسان مع الشعب، وبعد مباركة الكأس المشتركة يتناول منها العروسان وبعد إتمام أفاشين العرس يتلى إفشين المنبر والختم ( فونتوليس. م. س. ص. 238).

حتّى أواخر العصر البيزنطيّ، في القرن الخامس عشر، كانت الكنيسة تحاول جاهدة إقامة سرّ الزواج في القدّاس الإلهيّ أو في القدّاس الإلهيّ السابق تقديسه، لكن الظروف الموضوعيّة، جعلت المشاركة في القدّاس الإلهيّ ومناولة القرابين، موضوع خيار من العروسين، ومسألة خاضعة لتدبير الكنيسة. فيواساف الأفسسيّ (+1437) يصف لنا عرسًًا يقام في القدّاس الإلهيّ. وسمعان التسالونيكيّ (+1429) يصف خدمة مستقلّة لخطبة وعرس، يتناول فيها العروسان من القدسات السابق تقديسها. فيشرح النصوص باختصار وبساطة وعمق لاهوتيّ، ويعطي المعاني الروحيّة لرموز العرس وحركاته، الذي يجب أن  يتمّ في الكنيسة. فبعد تلاوة إفشين الكأس، يقول سمعان، يعلن الكاهن »القدسات السابق تقديسها للقدّيسين«، وبعد ترنيم: »قدّوس واحد ربّ واحد...«، يتناول العروسان من القدسات »إذا وجدا مستحقّين للمناولة، لأنّ كلّ سرّ إلهيّ ينتهي بختم المناولة المقدّسة«. وبعد ذلك يتناولان من الكأس المشتركة، فيما يرتّل الجوق: »كأس الخلاص أقبل وباسم الربّ أدعو«. أمّا بالنسبة إلى العروسين غير المستحقّين، كالذين يعقدون زواجًا ثانيًا أو تطالهم الموانع الكنسيّة، فيتناولون من الكأس المشتركة فقط. اللافت أنّ  شرح سمعان للخطبة والزواج يخلو من التلاوات الكتابيّة، ذلك بأنّ سرّ الزواج كان ما زال يتمّ في القدّاس الإلهيّ، ويخلو أيضًا من أيّ ذكر لإفشين الخطبة الأخير الطويل »أيّها الربّ إلهنا يا من رافق غلام رئيس الآباء إبراهيم...«، ومن إفشيني العرس الأوّلين: »أيّها الإله الطاهر الخالق كلّ البرايا« و»مبارك أنت أيّها الربّ إلهنا يا مكمّلاً العرس السرّيّ الطاهر...«، لأنّها مستحدثة ولم تكن موجودة في أيّامه. أمّا ما ورد في  الإفشين الذي كان يتلى في أواخر الخدمة، الشبيه بالرسالة إلى أهل فيليبيّ (4: ٤- ٦)، فلا يمكن اعتباره إلاّ تمنّيّات وتهنئة للعروسين يشبه ما يقوله الكاهن في الخدمة الحاليّة »يعظّمك اللَّه أيّها العريس مثل إبراهيم... اسلك في السلامة واصنع بعدل وصايا اللَّه« (مجموعة أعمال سمعان التسالونيكيّ. 1882. ص. ٢٢٤- ٢٢٦). وفي مرجع آخر من القرن الخامس عشر (مخطوط دير اللافرا في جبل آثوس، رقم ل 105). نقرأ : »إذا حضر عروسان إلى الكنيسة أثناء إقامة القدّاس الإلهيّ، وكانا مستحقّين للمناولة، يقول الكاهن الطروباريّة وقنداق اليوم (أي بعد تلاوة أفاشين العرس ووضع الأكليلين وختم الجزء الأوّل من القدّاس الإلهيّ). وبعد ترنيم قدّوس واحد... وإتمام القدّاس الإلهيّ، وإعلان »بخوف اللَّه وإيمان ومحبّة تقدّموا«، يتناول العروسان. يلي ذلك إفشين »يا ربّ يا من تبارك الذين يباركونك...«،  وتكملة أفاشين وطقس العرس، ثمّ »ليكن اسم الربّ مباركًا...« إلخ. وإذا لم يكن هناك قدّاس إلهيّ، وإذا وجد العروسان غير مستحقّين للمناولة، فتتلى خدمة الزواج، وأخيرًا الطلبات وإفشين الكأس المشتركة.

العام 1923، قام مطران قيصريّة كبادوكية أمبروسيوس ستافرينوس، ببحث ليتورجيّ قيّم حول موضوع سرّ الزواج، درس فيه 41 مخطوطًا من القرن التاسع إلى القرن السادس عشر، فوجد أنّ أكثر المخطوطات تتكلّم على عرس تُعطى فيه القدسات السابق تقديسها، وبعضها المناولة الكاملة وبعضها القليل المناولة من الكأس المشتركة. بعد سقوط القسطنطينيّة وحلول العهد العثمانيّ، ازدادت الصعوبات التي حالت دون إتمام العرس في الكنيسة. فبسبب الخوف من المحتلّ، بدأ المسيحيّون يدعون الكهنة إلى منازلهم، لإتمام أسرار العرس والمعموديّة وتقديس الماء والزيت.

القدّيس كوزما الإيتوليّ (+1779) يأتي على ذكر الزواج مرّتين. في المرّة الأولى، يتكلّم على تقدّم العروسين إلى سرّ الاعتراف قبل العرس. ثمّ  ينصح الكاهن »بقيادة العريس والعروس والإشبين، وشاهد أو شاهدين، وشمعتين، والتوجّه إلى الكنيسة. وليقف العريس إلى اليمين والعروس إلى اليسار. وليضع الإكليلين والخاتمين على المائدة المقدّسة. وبعد ختم القدّاس الإلهيّ، أن يأخذ طاولة ويضعها في وسط الكنيسة ويضع عليها الإنجيل والخاتمين والإكليلين، فيما يقف العروسان أمامه. ويأخذ أيضًا المبخرة والشمعتين... وبعد أخذ موافقة العروسين، يكلّلهما. وبعد الإكليل، يناولهما الأسرار الطاهرة. أمّا إذا وجد مانع للمناولة، فيناولهما من الكأس المشتركة. الملاحظ أنّ سرّ الزواج بأكمله كان يجرى بعد القدّاس الإلهيّ. أمّا المناولة، فيجب أن تكون من القدسات السابق تقديسها. وفي مكان آخر يذكر كوزما تكليل العروسين بعد القدّاس الإلهيّ وكذلك المناولة. ثيوفيلوس كامبانيّاس (1795) يتمنّى إقامة سرّ الزواج بأكمله في القدّاس الإلهيّ. يقول »كما أنّ الذين ينالون أسرار المعموديّة والكهنوت والزيت المقدّس يتناولون بعدها الجسد والدم الكريمين، يجب أن يتناول كلّ الذين يتكلّلون«. وفي تحسّر واضح على ضياع التقاليد الشريفة، يتمنّى إعادتها إلى سابق عهدها ضمن القدّاس الإلهيّ. القدّيس نيكوذيموس الآثوسيّ (+1809) يتمنّى إقامة العرس في القدّاس الإلهي، مقترحًا وضع الأكاليل، بعد إقامة التقدمة في صلاة السحر. يقول القدّيس: »قبل البدء بالقدّاس الإلهيّ، يكلّل العروسان. وبعد أن يكلّلا يبدأ القدّاس الإلهيّ. وفي نهايته يتناولان الأسرار الطاهرة« (بيذاليون ص. 230 ).l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search