ندوة حول سلسلة كتب الدكتور بندلي الإيمان والعلوم الإنسانيّة
بعنوان حوار مع فرويد
دعت حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة وقسم علم النفس في كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة في جامعة القدّيس يوسف في بيروت، إلى ندوة حول سلسلة كتب الدكتور كوستي بندلي »الإيمان والعلوم الإنسانية« بعنوان: »حوار مع فرويد«.
شارك في هذا اللقاء سيادة المطران جورج (خضر) والبروفسور منير شمعون والبروفسور نجيب جهشان، والدكتور أديب صعب. قدّم الندوة البروفسور نقولا لوقا. تحدّث في البدء البروفسور نقولا لوقا فشكر باسم الأمانة العامّة في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، وباسم الدكتور كوستي بندلي، جامعة القدّيس يوسف وتحديدًا كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، وعميدها البروفسور جرجورة حردان، وبالأخصّ قسم علم النفس لاستضافتهم هذه الندوة.
وعرّف بالكتب الصادرة عن الدكتور بندلي، وممّا قاله: »همّ كوستي بندلي أن يضيء نور اللَّه في قلوب الناس. فهو يسعى، دائمًا، لذلك عبر صداقات وعلاقات مباشرة مع وجوهٍ. ويترجم هذه الخبرات في كتاباتٍ جاءت دائمًا من صميم معاناة لشابّات وشباب وعاملين في حقل التربية والإرشاد، بخاصّة ضمن حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة.
كان هاجسه الدائم أن نكتشف أنّ كلمة اللَّه تنبض بالحياة والفرح، فنكتشف ذاتنا ونربّيها على ضوء الإنجيل وبنور علوم إنسانيّة عمّدها بندلي بروح إنجيل المسيح. فبندلي هو محدّث دائم لا يكلّ مع وفاء للأصالة، فالأصيل هو الأساس. ولكنّ الأساليب المعبِّرة عنه والطرائق للعبور إليه هي ما يجب أن تُستَحدث بشكلٍ دائم. فكان يقول لنا دائمًا إنّه إذا أردنا أن نكون أوفياء لروح الآباء، علينا قراءة أقوالهم على ضوء حياتنا اليوم، وأن نستلهم روحيّتهم لا أن نردّد ما قالوه بشكلٍ أعمى ونصنّمه أو نحنّطه، فنكون بذلك خائنين لروحيّتهم الخلاّقة والمجدِّدة«.
وبسبب تغيّب سيادة المطران جورج بداعي المرض، ألقى الأب يونس (يونس) بالنيابة عنه الشهادة التي أرسلها سيادته ونورد بعضًا منها: »يتحرّك كوستي بندلي من الداخل إلى الداخل، من غنى إلى غنى. ما قلت إنّ في هذا انطواء لأنّ من انطوى لا يرى الآخرين، لا يحبّ. كان كوستي ما كانه إلاّ لكونه يواجه اللَّه أي أنّ وجهه هو إلى وجه اللَّه. هذا يجعل كيانه أقوى من كلمته واذا لم تلتمس كيانه لا تفهم منه شيئًا. ما سطّره يأتي من كونه يتأدّب بأدب الربّ، وأعرف أنّ الشباب الذي تتلمذ عليه في مطارح العلم أو في مطارح الإيمان رأى هذا وشهد له. يعني هذا أنّه لم يتكلّم إلاّ لأنّه أصغى كثيرًا وحسم أنّه رفض أن تكون له كلمةٌ غيرُ نازلة عليه من فوق. قد لا يعرف كلّ هذا. أنا أعرف أنّ اللَّه يستنطقه لينطق.
معنى هذا أنّه مطيع للربّ. لم يطمح أن يكون الأبلغ. »فذكّر إنّما أنت مذكّر«. أنت حافظ للتراث. صُنه فإنّما أنت صائغ، وتجميل الذهب إبداع. كوستي يجيء من تراث القدّيسين الذين أطاعوا الكلمة فصاروا كلمات، وهذه لا تظهر إلاّ من سكينة. من بعدها أو منها يأتي الفكر المنحوت. والنحت خدمة لأنّه قدرةُ موصوليّةٍ والمؤمن مكلَّف التبليغ، إذ الحقيقة مشاركة تجعلنا معًا ونتقبّلها معًا، لأنّك لا تتجلّى وحدك إذ الفكر تؤتاه من إرادة العطاء حتّى إذا وصل نتحوّل قربانًا واحدًا للَّه. »التي لك ممّا لك نقدّمها لك«. كلّ حركة من علّم أن نعود بعضنا مع بعض إلى ينبوع المعرفة المتدفّق علينا من علُ.
ارتفع عمودًا في هذا البنيان الذي شيّده الروح. من يلهمه كثيرًا يعطي كثيرًا. يدعم تنبيهات الروح بالجهد الموصول. لقد علّمنا اللَّه الكتاب بسبب من فضله واستكتبنا ما يريد أن يقرأه رفقاؤنا فحفظنا وإيّاهم الإيمان الذي دُفع مرّة للقدّيسين.
ما من شكّ في أنّ كتبه تكشف فكره، ولكن طوبى للذين عايشوه هؤلاء الذين عرفوا أنّ قلبه ولسانه وقلمه واحد. عشنا كثيرًا، يا كوستي، بالبركات التي نزلت عليك. ما كان لك فضل إلا بكشفها. بورك من أعطاك ما أعطى وبورك لنا موسم القطاف«.
أمّا مساهمة البروفسور منير شمعون، فكانت باللغة الفرنسيّة وحملت عنوان »من التحليل النفسيّ إلى الروحانيّة«. ورأى البروفوسّور شمعون أنّ بندلي، مُحاور فرويد، مؤمنٌ مُلتزم وعالم كبير أنجز عملاً مُبدعًا جبّارًا كأطروحة الدكتوراه التي ناقشها العام 1981، وأنّ مُبتغاه أن يتحرّر الإنسان من نفسه ليعي آفاق النعمة الإلهيّة، فيذوب بسلطان اللَّه، ويسمو متعاليًا إلى اللامنظور وإلى الاشعاع. وانطلق الدكتور شمعون، في قراءته العلميّة لفكر الأخ كوستي، من تواضعه ونقاوة نفسه وتعبيره، ودقّة تحاليله وموضوعيّته الصارمة، وشموليّة مقاربته للمواضيع، وصدق نظريّاته وبراهينه، وانفتاح ما يدعو إليه نحو الروحانيّة الثابتة والآفاق الواسعة.
من جهته، قارب البروفسّور نجيب جهشان »اللَّه والإنسان في فكر بندلي«. فلاحظ أنّ بندلي، عالم النفس، انطلق في أطروحته وكُتبه، موضوع الندوة، من الوجود الإنسانيّ الباكر والبدائيّ غير المُدرك للَّه، ليصير وجودًا واعيًا يستشفّ اللَّه ويحلّ اللَّه فيه. وأشار الى أنّ الدكتور كوستي يُبرهن، مطوّلاً، في كتبه بأنّ الايمان هو جزءٌ من الرغبة الصحيحة لدى الإنسان وتعبير لها وبرهان لصدقيّتها. ورأى أنّ كوستي بندلي يؤمن بأنّ النفس الإنسانيّة، المُتجدّدة بروح الطفولة، تستقبل بكلّ وعي وتصميم الذات الإلهيّة التي تتجلّى، بكلّ بهائها، في المسيح المُتجسّد.
ثمّ كانت كلمة الدكتور أديب صعب التي حملت العنوان التالي: »خُماسيّة كوستي بندلي:ثَورة مزدوجة في علم النفس«، فقال: »في هذه الخُماسيّة الجليلة، يُحْدِث الدكتور كوستي بندلي ثورة مزدوجة في علم النفس. الثورة الأُولى موجَّهة إلى المنهج السلوكيّ السائد في الثقافة الأنكلوسكسونيّة، الذي خفض دُعاته علم النفس إلى دراسات إحصائيّة لجوانب من السلوك البشريّ. وبالَغَ عددٌ من هؤلاء في تركيزهم على هذه الطريقة، ورفْضهم كلّ ما عداها إلى حدّ إخراجهم الفردَ البشريّ كلّيًّا خارجَ اهتمام علم النفس وقَصْرِهم هذا العلمَ على الجماعة.
الجانب الأوّل من ثورة كوستي بندلي في علم النفس، إذًا، يكمن في استعادة الشخص البشريّ من حيث هو فرد بعدما سلبَه المنهج السلوكيّ هذه الفرديّة عبْر خَفْضه إلى كيان جماعيّ وَهْميّ. وقد تبنّى المؤلّف التحليل النفسيّ منهجًا يتجلّى الفردُ في ضوئه مثل كلّ الأفراد في أُمور معيّنة، ومثل بعض الأفراد في أُمور أُخرى، ومثل لا أحد، أي فريدًا مفْرَدًا في أُموره كلّها. هذا يعني تبَنّي منهج سيغموند فرويد، مطْلِق ثورة التحليل النفسيّ، خصوصًا في نَسْج نظرته إلى الإنسان انطلاقًا من مرحلة الطفولة الأُولى.
لكنّ كوستي بندلي يفترق عن صاحب »الثورة العلميّة الثالثة« كما يسمّي فرويد نفسَه، عندما يحاول فرويد خَفْض الحاجات النفسيّة إلى عدد قليل من الحاجات أو الغرائز البدائيّة، مع نزوعٍ نحو خَفْضها كلّها إلى الغريزة الجنسيّة. ويَعتبر بندلي هذا الخفض مجافيًا للعلم، لأنّ العلم لا ينسجم مع النظرات الشموليّة التي تحاول فرْض مبدأ واحد لتفسير ظواهر الوجود. ويركِّز على الحاجة الدينيّة، رافضًا وَضْعَها في إطار الإضفاء الطفوليّ لغريزة الحماية على العالم الخارجيّ، مع تَصَوُّر سماء خارج هذا العالم وإلهٍ-أب ذي قدرة ورعاية.
ثورته الثانية موجَّهة ضدّ المنهج التحليليّ عينه على الطريقة الفرويديّة للعودة بهذا المنهج إلى نطاق العلم الذي لا يطيق أيّ نزعة شموليّة تخفيضيّة. واختصارُ القول أنّ علم النفس التحليليّ حسب طريقة بندلي قائمٌ على نظرة فلسفية إلى الإنسان والكون واللَّه، هذا المثلَّث الذي يفسِّر المؤلف بواسطته نظرته إلى الوجود ويجعله أساسًًا يقيم عليه منهجه النفسيّ التحليليّ.
وختم الدكتور أديب صعب بالتمنّي على دوائر الإنسانيّات الجامعيّة أن تعتمد مجموعة كوستي بندلي مرجعًا رئيسًا، إذْ لا غنى عنها للأُستاذ والباحث والطالب في علمَي النفس والاجتماع والتربية والفلسفة واللاهوت والدراسات الدينيّة، وعلى الأخصّ للراعي الدينيّ الذي طالما خاطَبَه المؤلِّف في كتاباته المتنوّرة«.l