2011

06 – وقفة كتابيّة - ثلاثة أيّام - الأب سمعان أبو حيدر - العدد 2 سنة 2011

 ثلاثة أيّام

الأب سمعان أبو حيدر

 

ما هي الأفكار التي توغَّلت في عقل إبراهيم المتعب، عندما طلب الربّ منه تقديم ابنه اسحق في التضحية؟ »وَحَدَثَ بَعْدَ هذِهِ الأُمُورِ أَنَّ اللَّهَ امْتَحَنَ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهُ يَا إِبْرَاهِيمُ. فَقَالَ هأَنَذَا. فقَالَ خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، الَّذِي تُحِبُّهُ، إِسْحَقَ، وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الَّذِي أَقُولُ لَك« (تكوين 22: 1-2).

لعلّ المشكل الأكثر عصيًّا على التذليل، واحدٌ من منطقين: كيف وفّق إبراهيم في فكره، فُقدان ابنه الوشيك، مع الوعد الربّانيّ له في وقت سابق بأنَّ هذا الابن نفسه سيكون أبًا لأمم كثيرة؟ كيف أمكنه مجرّد حلّ التناقض بين وعد اللَّه الذي آمن به تمامًا، وأمر اللَّه الذي قرّر كلّيًّا إطاعته؟

في الواقع، كاتب الرسالة إلى العبرانيّين، أقدم التفاسير المسيحيّة لهذه القصّة، أشار صراحة إلى وعد اللَّه في وقت سابق »بإسحقَ يُدعى لكَ نسلٌ« في سياق الكلام على أنَّ إسحقَ كان لا بدّ من التضحية به (عبرانيّين ١١: ١٨).  كيف كان من الممكن التوفيق بين وعد اللَّه وأمر اللَّه؟ كان لإبراهيم ثلاثة أيّام للتفكير في الأمر...

صاحب الرسالة إلى العبرانيّين يعكس أنَّ إبراهيم، من أجل حلّ هذا التناقض، يجب أن يكون أدخل في سياق عمليّة تحليله، افتراضيّة إضافيّة أن »يستنزف« قوَّة اللَّه: »إذ حسِبَ أنَّ اللَّه قادرٌ...« (19). ففي صوغ هذه الحجّة في إطار الحديث عن اللَّه، يستخدم صفة »قادرٌ« بدلاً من »يمكنه« إشارة تاليًا إلى خاصّة ثابتة في اللَّه قوَّته. وكان أبرام شهد بالفعل قوّة اللَّه عبر الحبل بإسحق، عندما كان مع سارة عاقرين (ميّتين): »مُماتًا إذ كان ابن نحو مئة سنةٍ ومُماتيّة مُستودع سارة« (رومية 4: 19).

بعبارة أخرى، علّل إبراهيم أنَّ قدرة اللَّه قد تغلّبت بالفعل على الموت في ظروف الحَمَل بإسحق. وإذا كان اللَّه تغلّب على الموت مرّة (بالحبل بإسحق)، فهو دائمًا قادر على ذلك. وهكذا، وفي ما يتعلّق بإسحق، تقول الرسالة إلى العبرانيّين، إنَّ إبراهيم »حسِبَ أنَّ اللَّه قادرٌ على أن يقيم من الموت« (19).

عندما تحدّى الصدّوقيّون يسوع بموضوع الإيمان بالقيامة من بين الأموات، هو أيضًا علّل بقوَّة اللَّه: »أليس لهذا تضلّون؟«، سألهم، »إذ لا تعرفون الكُتُب ولا dynamis قوَّة اللَّه؟« (مرقس ١٢: ٢٤). من اللافت أنّ يمرّ في كلام المسيح كلّ من إبراهيم وإسحق في سياق دفاعه عن القيامة: »أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب«. وفي معرض شرحه، أضاف يسوع: »ليس هو إله أمواتٍ، بل هو إله أحياء« (١٢: ٢٦- ٢٧).

بالعودة إلى كاتب الرسالة إلى العبرانيّين، تسابق فكر إبراهيم العتيق قُدُمًا في نبوءة مُسبَقَة لعقيدة القيامة كنتيجة لما اختبره وعرفه بالفعل عن اللَّه. من تلك التجربة التي تعرّض لها، وصل إبراهيم إلى مفهوم جديد عن اللَّه تحديدًا أنّه قادرٌ على إقامة الأموات. وكان هذا وحيًا نبويًّا صحيحًا مُنح لفكر عبد اللَّه الحائر، »أبي المؤمنين« إبراهيم.

تأثَّرَ المغبوط أوغسطين كثيرًا بهذه القصة: »والدٌ ورعٌ«، يكتب، »يتمسّك بأمانة بهذا الوعد الذي كان لا بُدّ من الوفاء به عبر هذا الولد الذي أمره اللَّه بذبحه، لم يشكّ في أنّ هذا الابن، الذي لم يكن لديه أمل بأن يُعطاه أصلاً، يمكن استعادته بعد التضحية به«. لكاتب الرسالة إلى العبرانيّين، إقامة إسحق تحقّقت »في مثالٍ« »إذ حسب أنَّ اللَّه قادرٌ على الإقامة من الأموات أيضًا الذين منهم أخذهُ أيضًا في مثال« (عبرانيّين 11 :19). وحسنًا قام أوغسطين بترجمة »في مثالٍ« هنا، إلىsimilitude، كإشارة صحيحة إلى قيامة المسيح، عندما استعاد اللَّه ابنه بعد التضحية به على الصليب. كان هناك »تشابه« (similitude) بين اللَّه وإبراهيم، كُشف لاحقًا في سرّ القيامة (مدينة اللَّه 32).

لِمَ اختبر اللَّه إبراهيم؟

من أجل كشف جانب أساس من جوانب نفسه: قُدرته على الإقامة من الموت. وصل إبراهيم إلى هذه الحقيقة عبر جحيم عقله، عبر نضاله للتوفيق بين وعد اللَّه وأمره. لم تكن قدرة اللَّه على الإقامة من الموت حقيقة مجرّدة من حقائق اللاهوت متاحة للفكر المجرّد، بل كانت نبض اختبارٍ هائلٍ خضع له رجلٌ من بلاد ما بين النهرين القديمة، عندما تشبّه شخصيًّا بالإله الذي أخضعه للتجربة.l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search