صمت المرأة
كارولين طورانيان
تدعو الكنيسة، في الكثير من الأحيان، المرأة، إلى التمثّل بمريم العذراء، في صمتها وخضوعها التامّ لمشيئة اللَّه الآب. لا بل تدعونا الكنيسة كلّنا رجالاً ونساء إلى التمثّل بالعذراء النقيّة، لكي نكون أنقياء القلوب مثلها لكي نقدر على أن نعطي المسيح للعالم. ولكن في الكثير من الأحيان نربط بين صمت العذراء وخضوعها التامّ لمشيئة الربّ ودعوة الكنيسة إلى المرأة تحديدًا إلى الصمت والخضوع التامّ للَّه. بالنسبة إلى الصمت، ربّما يبدو لنا الأمر مجحفًا بحقّ المرأة لأوّل وهلة، ودعوة الصمت هي في الحقيقة إلى الرجال الكهنة والرهبان والعلمانيّين أيضًا. نحن البشر، لقلّة ما نقرأ ونعرف عن تعليم الكنيسة، نوحي أو يوحى إلينا أنّ الصمت مطلوب أكثر من المرأة تحديدًا، لأنّ مريم العذراء كانت صامتة. بولس الرسول يطلب أيضًا من النساء أن تصمت وأنّه لا يحق لهنّ التعليم. ولكنّ تعليم بولس هذا كان مرتبطًا بثقافة ذلك العصر. ليس من أيّ مانع أن يكون للمرأة دور التعليم في كنيستنا الأرثوذكسيّة. ولكن يجب أن تكون الأمور كلّها بترتيب ونظام كما يعلّمنا بولس الرسول أيضًا.
إن عدنا قليلاً إلى موضوع الصمت. ما هو الصمت؟ هو، إذا أردنا أن نتكلّم تحديدًا على المرأة، ليس دعوة إلى عدم المشاركة والكلام كما يمكن أن يظنّ البعض. وهو ليس إخضاعًا للمرأة لكي تكون صامتة وغير فاعلة. الصمت أكبر بما لا يقاس ممّا تدلّ عليه لغتنا البشريّة. ولذا هو دعوة إلهيّة إلى النساء والرجال معًا.
أحبّ أن أوجّه كلامي إلى المرأة بالتحديد. ليس لأنّه يقال عنها إنّها ثرثارة بعامّة، فأنا لا أحبّ الاتّهامات العشوائيّة والكلام المهين وغير المدروس علميًّا ومنطقيًّا. أحبّ أن أوجّه كلامي إلى المرأة، لسببين، الأوّل أنّ في لغتنا العربيّة وأكثر لغات العالم نتكلّم على الإنسان أو المرء أو بصفة المذكّر عندما نتكلّم على المرأة والرجل في آن. وهذا بنظري يمكن أن يكون لغة ذكوريّة، حسب فحوى النصّ طبعًا، ويمكن أيضًا ألاّ نصل بهذه اللغة إلى الرجال والنساء معًا بالشكل الكافي. هذا على الأقلّ رأيي وذوقي في بعض الكتابة. والسبب الثاني هو أنّني أريد أن تشعر المرأة بأهمّيّتها الكبيرة بالنسبة إلى المسيح والكنيسة ودورها في الخلاص لأنّها لا تفعل ذلك دائمًا.
«عندما تصمت المرأة أمام زوجها يكون صمتها علامة حكمة»، تقول إحداهن. حكمة؟ ومن يطبّق هكذا حكمة في هذه الأيّام. هذه الأيّام هي أيّام القويّ وأيّام تطلب فيها المرأة المساواة مع الرجل ولا تسكت له إذا خالفها. أوّلاً الإيمان والتعليم المسيحيّ ليس ضدّ المساواة بين المرأة والرجل فهما متساويان أمام اللَّه في الكرامة، والاثنان على صورة اللَّه كمثاله من دون زيادة أو نقصان. أمّا بالنسبة إلى المساواة في شؤون العالم فليس هناك من أيّ مانع ولكن علينا أن نعرف من أين نبدأ وما هي ظروفنا وقدراتنا والمجالات المفتوحة أمامنا. من ناحية أخرى، لا أرى من مانع أن تكون المرأة قويّة، ولكن عليها أن تستعمل قوّتها لخدمة بيتها وأولادها والكنيسة وليس للاستبداد بالرجل. كما على الرجل استعمال قوّته وسلطته لخدمة بيته وأولاده وكنيسته، وليس فقط في العمل خارج المنزل ولكن بالمشاركة التامّة مع زوجته في كلّ أمور الحياة.
يقول الإنجيل: «إن لم يبنِ الربّ البيت، عبثًا يتعب البنّاؤون». ولا أحد يقدر على أن ينقض هذا الكلام الإلهيّ. وأيضًا «بدوني لا تستطيعون أن تفعلوا شيئًا». «اطلبوا أوّلاً ملكوت اللَّه وبرّه وكلّ شيء يزاد لكم». ماذا نريد من هذه الحياة؟ فلنسأل نفسنا. أنريد العالم أم المسيح؟ إن ركضنا خلف العالم وخلف المال والجاه وحبّ الظهور والتفنّن به، وكلّ ما شابه فإنّنا سرعان ما سنشعر بالفراغ واليأس، ولن تشفينا لا المشتريات الثمينة ولا الجسد الأنيق اللافت، ولا الشهادات ولا الأولاد ولا السفر ولا المساواة مع الرجل، ولا نظرة الإجلال والتقدير من الآخرين لما نملك من أمور. ولكن هل علينا أن نعيش بدون كلّ هذا لنكسب الحياة الأبديّة. والجواب هو أنّ هذه الأمور ليست سيّئة بحدّ ذاتها والربّ لم يمنعنا عنها وهي ليست بخطيئة. الخطيئة تكمن في أنّ توجّهنا الداخليّ هو نحوها ونحو العالم. والإنجيل واضح في هذا الشأن «لا يقدر الإنسان على أن يعبد اللَّه والمال، إمّا أن يحبّ الواحد ويزدري الآخر». وأيضًا «كلّ شيء يحلّ لي ولكن ليس كلّ شيء يوافق». هذه الأمور ممكن أن تكون وسائل للحياة بشكل منظّم ومرتّب ومعقول، ولكنّها ليست هدف الإنسان المخلوق على صورة اللَّه ومثاله. لذلك الإنسان الذي يجري خلف العالم، يجري وراء سراب وضياع ولن يجد الراحة لنفسه إلاّ إذا عاد إلى يسوع المسيح. فما العمل؟ علينا أن نطلب اللَّه وملكوته أوّلاً ونسعى جاهدين لكي ندخل من الباب الضيّق لأنّه يقول «واسع هو الباب ورحب الطريق الذي يؤدّي إلى الهلاك وكثيرون يتبعونه» و«ما أضيق الباب وأكرب الطريق المؤدّي إلى الحياة والقليلون الذين يجدونه».
من هنا يأتي الجهاد في الصلاة والصوم والاعتراف لأب كاهن والمناولة والصدقة ومنها الصمت أيضًا. الصمت هو إذا مدخل إلى حياة القلب والحياة مع اللَّه بعد جهاد وتنقية وصوم وصلاة. الصمت هو كلام حكمة مدوٍّ. الصمت يمكن بتواضعنا أن يفتح لنا أبواب السماء والملكوت مشرّعة. الصمت أمام الربّ يمكن أن يرمينا في بحر رأفته ورحمته وحبّه اللامتناهي. إذًا الصمت ضروريّ كضرورة التنفّس، ضروريّ كضرورة حبّ اللَّه للإنسان، وكضرورة وصول حبّ اللَّه إلى قلب الإنسان. علينا أن نتدرّب على الصمت وعلى الخلوات والصلاة والقراءات. إن بقينا في «عجقة» الحياة ومتطلّباتها ومظاهرها وواجباتها وضروراتها فإنّنا نهرب من ذواتنا ومن مواجهتها إلى حيث لن نجد ما نرغب فيه في العمق.
حبّ الربّ لنا عظيم. هلاّ فتحنا أبواب قلبنا له بالصلاة والصوم والتوبة؟. كيف يمكننا أن نرفض حبّ الربّ ونفضّل العالم وما فيه عليه هو، ولا نعطيه الوقت الذي هو ملكه أصلاً، وذلك من دون أن نُرمى خارجًا حين يجيء في اليوم الأخير. ولكي نتلقّى حبّ الربّ علينا أن نكون حكيمات، نعرف متى نتكلّم ومتى نصمت أمام الآخرين وعلينا أن نختلي بذواتنا أمام الربّ ونصلّي ونقرأ ونصمت ونصغي.
العالم، وكلّ غناه، ناقص؛ وكلّ ما فيه لا يقدر على أن يروي لا عطش الإنسان إلى الحبّ والاطمئنان، ولا عطش المرأة إلى الحبّ والحنان والقوّة والثبات. نحن نعيش في دوّامة وعلينا أن نختار. وإن اخترنا الربّ والتوبة إليه على الحياة البعيدة عنه، فإنّه سوف يعتني بنا: هو الذي يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، كيف له ألاّ يتحنّن على خرافه التي تحاول جاهدة أن تلجأ إليه؟. الربّ حنون ورؤوف كثير الرحمة وعلى المرأة، قبل الرجل، أن تلجأ إليه وإلى الكنيسة، في توبة عن حب العالم، في توبة إلى حضن الربّ، لأنّها امرأة وهي تلد الحياة و«يمكنها أن تحبّ بكلّ كيانها»، كما يقول الأب يوسف (رئيس دير الحرف- لبنان). لذا عليها هي أوّلاً أن تدعو الربّ وتسأله أن يهديها وتتبعه وتعمل من أجله من عمقها، وتكون له بالكلّيّة وتعيش من أجله ومن أجل ملكوته وخلاص العالم، تعيش في العالم وتسعى إلى خلاصه، تعيش فيه وليس منه، تستعمله ولا تدعه يتحكّم فيها. لأنّ يسوع أخذ الطبيعة البشريّة ورفعها عن يمين الآب. فماذا سنقول للربّ إذا جاء ورآنا غارقات وغارقين في هموم العالم ومجده وزيفه. ونحن ربّما لم نحاول جدّيًّا أن ندعه يتكلّم فينا لأنّنا لم نصمت يومًا ولأنّه عندنا الكثير من الهموم والمشاغل والاهتمامات والطلبات والحاجات والأفكار والآراء عن أمور شتّى. فهلاّ لجأنا إلى الربّ أوّلاً بصمت وخضوع وصلاة وقراءات، وتركنا الهموم والمشاغل لربّ اليوم والغد لكي يهتم هو بها ويعيننا عليها، فنأخذ القوّة والثبات والرحمة والحبّ والحنان منه هو وليس من سواه، ونعطيها للتائهين ونسعى إلى أن نعطي الربّ للآخرين كما فعلت مريم الكلّيّة القداسة. فيرفعنا الربّ عن العالم ويرفع من حولنا معنا من أجل المحبّة والرجاء والسلام في النفوس أوّلاً وفي العالم ثانيًا ومن أجل ملكوته السماويّ.n