غبطة البطريرك إيرناوس في أنطاكية
لولو صيبعة
وصل غبطة البطريرك إيريناوس بطريرك صربيا إلى مطار بيروت الدوليّ، صباح السبت الأوّل من حزيران في زيارة رسميّة سلاميّة، تلبية لدعوة من بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس.
ضمّ الوفد الصربيّ المرافق سيادة المطرانين أمفيلوخيوس ويوحنّا، الأرشمندريت دامسكينوس، والأب بوجو، والشمّاسين فلاديمير وداميان، والسيّد ديان.
في قاعة الشرف في مطار بيروت استقبل غبطته والوفد المرافق، السادة المتروبوليت سلوان (موسي) مطران جبيل والبترون وما يليهما، والمتروبوليت أنطونيوس (الصوريّ) مطران زحلة وبعلبك وما يليهما، والأسقف لوقا (الخوري)، والأب نكتاريوس (خيراللَّه) ممثّلًا سيادة المطران إلياس (عودة) وعدد من الكهنة، إضافة إلى سفير صربيا في لبنان السيّد إمير ألفيك. ومن المطار توجّه الجميع مباشرة إلى العاصمة السوريّة دمشق ليبدأ الاستقبال الرسميّ والشعبيّ، وارتفعت صلاة الشكر في الكاتدرائيّة المريميّة.
بعد الصلاة ألقى غبطة البطريرك يوحنّا العاشر كلمة رحّب فيها بزائر الكرسيّ الأنطاكيّ باسم المجمع المقدّس والكنائس المسيحيّة وسائر المسيحيّين، وممّا قاله: «نرحّب بكم في دمشق الحاضرة في عهد الربّ القديم، هي إيّاها التي استضافت شاول فأخرجته بولس رسولًا إلى المعمورة. على مقربة منّا وعلى مشارف دمشق، تلّة الرؤيا هناك حيث سمع بولس «شاول شاول لماذا تضطهدني»، وخلفكم الشارع المستقيم الذي جازه بولس وبمحاذاته بيت يهوذا في حارة اليهود، حيث مكث بولس يصلّي وإلى جانبه أيضًا بيت حنانيا الذي عمّده بأمر الربّ. وعلى يساركم الجامع الأمويّ الذي يضمّ هامة النبيّ الكريم يوحنّا المعمدان، وإلى يمينكم سور دمشق حيث دُلّي بولس. نجتمع اليوم بكم بعد زيارتنا كنيستكم المقدّسة في تشرين الأوّل الماضي. نلقاكم على مقربة من خميس الصعود الإلهيّ. ومن هذه الذكرى يحلو لنا أن نتأمّل وإيّاكم كلمات السيّد له المجد: «علّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كلّ الأيّام إلى انقضاء الدهر آمين». ولعلّ هذا ما ترونه في عيون الشعب الحاضر ههنا في استقبالكم، وما رأيناه نحن بأمّ العين في محيّا شعبكم الطيّب. «ها أنا معكم كلّ الأيّام إلى انقضاء الدهر»، هذه كلمات يسوع انحفرت في قلوبنا ومسامعنا ونحن في هذه المعيّة منذ ألفي عام. وبهذه الوصفة الروحيّة وبهذه المعيّة عاش مسيحيّو كنيسة أنطاكية ألفي عام من تاريخهم.
وهكذا أيضًا عاشت كنيسة صربيا كنيسة الشهداء والقدّيسين والرسل الذين صبغوا دنياهم باسم الربّ يسوع. وهذا ما ترونه وسترونه يا صاحب الغبطة في زيارتكم هذه الديار الحبيبة. كنيسة أنطاكية أعطت للدنيا لقب مسيحيّين. ونحن ههنا منذ فجر المسيحيّة في شهادة ليسوع المسيح ربًّا ومخلّصًا. على هذه الأرض خطا السيّد ورسله وأخصّاؤه. على مقربة منّا حرمون يلثم جبين دمشق ويعانق تراب سورية وعلى قدميه الجولان وبحيرة طبريّا التي غسلت أرجل السيّد. وعلى مقلبه الآخر صور وصيدا وأرز لبنان. هذا نذرٌ قليل ممّا تحمل هذه الأرض من قدسيّة وممّا يحمل أبناؤها من عراقةٍ مسيحيّةٍ مشرقيّة». وبعد أن عدّد أسماء قدّيسين صرب شدّد على أنّ الأرثوذكسيّة واحدة مهما عصفت بها المحن، وعلى أنّها في هذه الأرض منذ فجر القيامة. وأشار إلى أنّ كنيستي أنطاكية وصربيا تقاستما الإيمان الواحد والشهادة الواحدة ليسوع المسيح رغم المآسي والحروب.
وردّ غبطة البطريرك إيريناوس فقال: إنّ قدومنا إلى هذا البلد المقدّس، بلد القدّيسين، بالنسبة إلينا هبة من الربّ، خصوصًا أنّ هذه الأوطان المقدّسة هي أرض الرسل والقدّيسين. تاليًا فرحتنا اليوم مضاعفة لوجودنا بينكم وبين أخوتنا في الكنيسة الأنطاكيّة. ما مرّت به صربيا هو مماثل لما مرّ به الشعب الأنطاكيّ، لكنّها بقيت صامدة بصمود أبنائها وإيمانهم الراسخ. من هنا، أتمنّى عليكم أن تبقوا في كنيسة أنطاكية ثابتين وراسخين في إيمانكم الأرثوذكسيّ».
السبت الأوّل من حزيران جمعت جلسة محادثات وفد الكنيسة الصربيّة برئاسة غبطة البطريرك إيريناوس والوفد الكنسيّ المرافق، إلى غبطة البطريرك يوحنّا العاشر وبعض مطارنة الكرسيّ الأنطاكيّ، فكانت مناسبة للاطّلاع المتبادل على أوضاع الكنيستين، بالإضافة إلى واقع شهادة الكنيسة الأرثوذكسيّة في العالم اليوم.
وصباح الأحد الواقع فيه الثاني من حزيران ٢٠١٩، ترأس غبطة البطريرك إيريناوس القدّاس الإلهيّ في كنيسة الصليب المقدّس في دمشق، وشاركه فيه غبطة البطريرك يوحنّا العاشر مع أحبار وإكليروس الكنيستين الصربيّة والأنطاكيّة. في نهاية القدّاس الإلهيّ، عبّرت الكلمات المتبادلة بين البطريركين عن الشهادة المشتركة وتبادل الطرفان الهدايا التذكاريّة. كما قلّد غبطة البطريرك يوحنّا الزائر الكريم وسام القدّيسين بطرس وبولس.
في دمشق قام غبطته والوفد المرافق بجولة على معالم المدينة الدينيّة، كما زار دير القدّيسة تقلا في معلولا ودير سيّدة صيدنايا. وانتقل بعد ذلك إلى دير القدّيس جاورجيوس الحميراء ودير السيّدة في بلمّانا.
في دير السيّدة بلمّانا كان استقبال حاشد ألقى خلاله سيادة المطران أثناسيوس (فهد) كلمة قال فيها: «أرحّب بكم ترحيبا قلبيًّا عابقًا بمحبّة المسيح. أعبّر لكم عن فرحنا الكبير بزيارتكم أبرشيّة اللاذقيّة التي عانقت المسيحيّة منذ العهد الرسوليّ في القرن الأوّل الميلاديّ. وتبوّأت مركزًا مهمًّا في القرون الأولى للمسيحيّة، وشارك أساقفتها في المجامع المسكونيّة، وقدّمت عددًا كبيرًا من الشهداء خلال فترة الاضطهادات المريرة. ورغم كلّ الأزمات والحروب والضيقات، التي مرّت بها هذه المنطقة، لا يزال شعبنا المؤمن يحمل صليب القيامة، مناديًا في أرجاء العالم كلّه أنّ «المسيح قام حقًّا قام». تباركون أبرشيّتنا بحضوركم اليوم في هذا الدير العامر المقدّس، الذي أحيا في هذه المنطقة روح التأمّل والنسك العابق ببخور الصلوات والأصوام والأسهار والفضائل. ما حصل في التاريخ من ويلات الحروب القاسية، إضافة إلى غضب الطبيعة والزلازل المدمّرة أيضًا، أزال معظم الكنائس والمناسك والأديار التي ازدهرت وامتلأت بها هذه الربوع. إلّا أنّ اللَّه أفاض على أبرشيّتنا قيامة حيّة، إذ عادت الحياة الرهبانيّة من جديد، مستندة إلى أصول النسك الإنجيليّ». وردّ غبطة البطريرك إيريناوس قائلاً: «أشكر لكم كلماتكم الطيّبة والمؤثّرة التي هزّت مشاعرنا ودخلت قلوبنا. زيارتنا إلى هذا الدير الشريف زيارة بركة وأمل، لا سيّما أنّنا زرنا أماكن متنوّعة في دمشق وريفها على خطى بولس الرسول. أرضكم مقدّسة وتعتبر مفخرة للعالم الأرثوذكسيّ أينما كان. نحن وإيّاكم عشنا أزمات وحروبًا صعبة وحملنا صليب المسيح الذي أعطانا إيّاه الربّ وهو صليب الخلاص. نحن نشارككم في آلامكم كلّ يوم، ونتابع الأحداث الدائرة في بلدكم، لكن ثقوا بأنّ اللَّه لن يتركنا وسيعطينا السلام. نصلي كي يعطي الربّ السلام لكلّ الأشخاص الذين يعملون على تدمير البلدان، ونصلّي أيضًا من أجل الأعداء، ونصلّي من أجل أن يزرع الربّ سلامه في القلوب والنفوس».
وأوّل محطة في لبنان كانت في البلمند حيث تفقّد الجامعة ودير السيّدة ومعهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ، والتقى طلاّب اللاهوت. في معهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ، تحدّث البطريرك إيريناوس عن العلاقة الأخويّة الوطيدة التي تربط كنيستي أنطاكية وصربيا فقال: «لا نعلم ماذا نقول لكم هل أنتم من حصلتم على بركتنا، أم نحن من حصلنا عليها منكم ومن قلوبكم الدافئة وإيمانكم المستقيم؟ نعم، أخبروننا عن كنيسة أنطاكية وفرادتها التاريخيّة لكن لم نصدّق أنّها بهذا الجمال الروحيّ. اليوم، تأكّدنا، وقلوبنا تخفق أمام هذا الدفء الإيمانيّ والتأصّل والشهادة في الحقّ، أن ما قيل لنا صحيح، لا بل خبرنا أكثر ممّا سمعنا. أريد أن أخبركم أنّنا في كنيسة صربيا مررنا بأيّام صعبة واضطهادات كثيرة مماثلة لمعاناتكم. هذا ما دفعنا إلى التمسّك بالغنى الروحيّ، وخلق في داخلنا مبدأ مفاده أنّ الحقّ هو قيامة لا يمكن انتزاعه. نحن، وإيّاكم، أصحاب حقّ، وشعبنا يدرك هذا الحقّ ويؤمن بأنّ اللَّه لن يتركه. تعرّفنا إلى فضائلكم الفيّاضة من محبّة وطيبة وعشق إيمانيّ. هذا فخر لنا، لا أخفي عليكم أنّنا نحسدكم على علاقاتكم الطيّبة مع سائر الديانات والطوائف لأنّ مثل هذه العلاقات نفتقدها».
وزار أيضًا دير القدّيس يعقوب الفارسيّ المقطّع في ددّة.كان في استقبال البطريرك الصربيّ سيادة المطران أفرام (كرياكوس) ورئيسة الدير والراهبات. وفي الكلمة الترحيبيّة قال سيادته: «أنتم، يا صاحب الغبطة، تؤكّدون بزيارتكم هذه على وحدة الكنيسة الأرثوذكسيّة الجامعة الرسوليّة؛ هذه الوحدة التي علينا أن نتمسّك بها، متخطّين كلّ صعوبة، بخاصّة تلك الآتية من طريق السياسة العالميّة، والقوميّة الوطنيّة السلبيّة. إنّ مسعاكم يجعلنا شاهدين بصراحة وجرأة على المحبّة الخالصة في الوحدة، وعلى الوحدة في المحبّة، على مثال العلاقة الثالوثيّة. هذا الدير هو أحد الأديار الأولى التي تأسّست في الزمن الحديث المعاصر لتجديد حركة الرهبنة الأرثوذكسيّة. ونحن نؤمن بأنّه لصلوات الرهبان والراهبات في هذا العصر، ولصلواتكم، دور كبير في تنقية الإنسان المعاصر من كلّ براثن الشيطان العالميّة». وكانت كلمة لرئيسة الدير الأمّ فيفرونيّا تطرّقت فيها إلى نشأة الدير طالبة البركة لتمضي هذه الشركة الرهبانيّة الصغيرة قدمًا في درب التطهّر، ولتبقى شاهدة للحقّ اللاهب بالتسابيح والتماجيد ونشر الكلمة الإلهيّة.
وفي اليوم التالي أي في السادس من حزيران وصل إلى بيروت وزار كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس في وسط المدينة، ثمّ قصد القصر الجمهوريّ فالتقى فخامة رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون. وعند الظهر أقام المتروبوليت إلياس (عودة) وليمة على شرفه في فندق البريستول، حضرها غبطة البطريرك يوحنّا والوفد الصربيّ وشخصيّات سياسيّة. وألقى سيادة المتروبوليت إلياس كلمة رحّب فيها بالزائر الكريم في بيروت التي هي ركن أساس في كنيسة أنطاكية، وشدّد على أنّ الكنيسة، جسد المسيح، كيان واحد لا ينقسم ولا تحدّه مسافات ولا لغات.
وقبيل الخامسة بعد الظهر تجمّع الكهنة والراهبات والمؤمنون والكشاف الأرثوذكسيّ أمام المطرانيّة، وساروا إلى كنيسة القدّيس نيقولاوس في الأشرفيّة حاملين الرايات وعلى أنغام الموسيقة الكشفيّة مشى وارءهم غبطة البطريرك إيريناوس وغبطة البطريرك يوحنّا وسيادة المطران إلياس. وبعد صلاة الشكر ألقى سيادة المطران إلياس كلمة ترحيب جاء فيها: «زيارتكم تحمل إلى بيروت وأهلها بركة القدّيس سابا الصربيّ، أبي الإيمان واستقامة الرأي بالنسبة إلى شعبكم المؤمن، الأمر الذي جعل من صربيا منارة للإيمان القويم. واليوم تزورون أنطاكية، وبيروت المحروسة بالربّ وتعتلون عرش الرسول كوارتوس، أحد السبعين الذي بشّر أهل هذه المدينة... نحن نأمل أن يعتبر أبناؤكم أنطاكيّتنا وبيروتنا محجًّا مقدسًّا لهم...». وقدّم سيادة المتروبوليت إلياس لغبطة البطريرك إيريناوس أيقونة القدّيس كوارتوس عربون محبّة صادقة. وردّ غبطة البطريرك الصربيّ فقال: «كلمة الربّ التي عنوانها المحبّة، وجدناها اليوم بينكم وبين هذه الوجوه الطيّبة. وأهمّ شيء هو التقارب بين الإخوة الذي تحقّق في هذه الزيارة الرسميّة السلاميّة إلى كنيستكم المحروسة باللَّه. نعلم أنّ بلدكم الحبيب تألّم ومرّ بحروب وظروف أليمة. إنّنا نتابع، بشكل دائم، الأحداث الدائرة في العالم وأصعبها الحرب الأهليّة، التي مرّ بها لبنان الحبيب، تلك التي رفضناها سابقًا ونرفضها في أيّ وقت. تعرّضنا لاضطهادات وحروب وأحداث مماثلة، وأكثرها تأزمًا، كان في كوسوفو. لكنّنا مصرّون على أن نتجاوز كلّ المحن بفعل إيماننا وصبرنا. من هنا، نؤكّد أنّ قوّتنا تكمن في وحدتنا، التي عبرها نستطيع تجاوز كلّ الصعاب، لأنّنا شعب يتوق إلى السلام. نحن نعلم أنّ الشرّ يقضي على الإنسان، لكن بالمحبّة نزيله. هذا ما علّمنا إيّاه القدّيس سابا الصربيّ».
دير سيّدة النوريّة محطة أخرى لغبطة البطريرك إيريناوس الذي كان في انتظاره على المدخل سيادة المتروبوليت سلوان (موسي)، والرهبان والراهبات وكهنة من أبرشيّة جبيل والبترون. بعد صلاة الشكر كانت كلمة لسيادة المتروبوليت سلوان جاء فيها: «مبارك اللَّه أبو ربّنا يسوع المسيح، أبو الرأفة وإله كلّ تعزية الذي يعزّينا في كلّ ضيقتنا...». لخّص بولس بهذه الكلمات ما تحمله زيارتكم من معانٍ تتشارك فيها كنيستَانا، الصربيّة والأنطاكيّة، حيث انتماؤنا إلى الجسد الواحد، بالإيمان، يجعلنا شركاء في الآلام والتعزية والخلاص. هذا هو النور الذي عاينه بولس الرسول على أبواب دمشق، وهو النور عينه الذي يضيء في هذا الدير المقدّس، في كنف العذراء، أمّ النور، وهو الذي يختم اليوم الأخير من زيارتكم إلى كنيستنا.
أبرشيّتنا انبعثت من جديد بعد أن عاشت من الحرب أبشع ويلاته. فقد تهدّمت دار المطرانيّة وعشرات الكنائس وتهجّر عشرات الألوف من أبنائها وهاجروا، لكنّهم أعادوا بناء ما تهدّم وعاد كثر إلى الأرض التي تركوها. وهي حملت أيضًا معاناة أبناء مناطق مختلفة من هذا البلد كما البلدان المجاورة حيث انتقل الكثيرون إلى العيش فيها، فسعت إلى تعزيتهم بما أوتيت. هذا كان بفضل رجاء راعٍ كبير، هو سلفي، صاحب السيادة المتروبوليت جاورجيوس، الذي يطلب بركتكم، الذي أبى على مدى أربعين عامًا ألّا يعيد بناء المطرانيّة حتّى يبني أبناء هذه الأبرشيّة بيوتهم وكنائسهم التي تهدّمت. لقد حمل هذا الأب نور المسيح في خدمته الكهنوتيّة والأسقفيّة على المدى الأنطاكيّ كلّه لأجل أن تزدان الكنيسة بمحبّين مخلصين وخادمين أطهار يعملون من أجل مجد اللَّه ونشر الكلمة بتفانٍ ومحبّة ومعرفة، والتكريس في الحياة الرهبانيّة، التي كانت هذه الأبرشيّة نواة بعثها في الكرسيّ الأنطاكيّ. أنتم اليوم في قلب لبنان. ففي هذا الجبل يقطن نصف سكانه، وفي هذا الجبل وجد المسيحيّون ملجأ على مدى العصور. على رؤوس جباله أرز الربّ، وعلى ساحله أقدام رسل حملوا إلينا البشارة وانطلقوا منها إلى غير مكان. فكنيستنا تحمل إرثًا رسوليًّا كبيرًا. ففيها كرسيّ جبيل الذي أسّسه الإنجيليّ مرقص، معاون بطرس الرسول، المرفأ الذي انطلقت منه الأبجديّة الفينيقيّة في بحر الأبيض المتوسّط وبشارة الكلمة إلى القارّة الإفريقيّة. وفيها كرسيّ البترون الذي أسّسه الرسول سيلا، معاون بولس الرسول. أنتم اليوم في أقدس مكان للسيّدة العذراء في لبنان. فديرها القديم بُني على هذا السفح في القرن السادس، بفعل ظهورات العذراء متّشحة بالنور تنقذ البحّارة من العواصف ومن ثمّ كلّ الملتجئين إلى كنف حمايتها. أمّا ديرها الجديد حيث نحن قائمون الآن فيعود بناؤه إلى العام 1890.... سرّني أن أسمع منكم أنّكم وضعتم هذه الزيارة الرسوليّة في منظار التأكيد على وحدة الكنيسة الأرثوذكسيّة وأن تجسّدها هذه الزيارة بكلّ تفاصيلها. فما يجمعنا هو يسوع المسيح، والشهادة له، وخدمة القريب القائمة على «الإيمان الفاعل بالمحبّة....».
وفي الختام قدّم سيادة المطران سلوان إلى غبطته أيقونة شفيعَي الأبرشيّة، الإنجيليّ مرقص والرسول سيلا، وأيقونة سيّدة النوريّة، ومجموعة من الكتب.
وتضمّنت الزيارة أيضًا لقاء غبطة البطريرك بشارة الراعي في بكركي، الذي رحّب بالبطريرك وصحبه، وألقى كلمة تطرّق فيها إلى الوضع في الشرق الأوسط وبخاصّة في لبنان من ناحية النازحين والتهجير، داعيًا إلى عودة المهجّرين والنازحين إلى بلادهم. وممّا قاله: «نعتزّ بهذه الزيارة لما فيها من محبّةٍ أخويّةٍ، وفرحٍ بالروح القدس الذي يجمعنا، وعنايةٍ من أمّنا مريم العذراء والدة الإله، شفيعة هذا الكرسيّ. وإنّنا نتمنّى لكم زيارةً مباركةً إلى لبنان، تُشدِّد ربط التعاون بيننا، ومع مختلف الكنائس. إنّ لزيارتكم أبعادًا لاهوتيةً وروحيّةً أَخصّها الإقرار بغنى المسيح الظاهر في حياة أبناء كنائسنا وبناتها، وبانعكاس وجهه في النفوس التقيّة؛ والتأمّل في عمل الروح القدس في كنائسنا. فنحن، كنائس الشرق الأوسط، نشعر بمسؤوليّتنا التاريخيّة الخطيرة، وهي المحافظة على جذور المسيحيّة العالميّة. ففي هذه المنطقة من العالم تجلّى سرُّ اللَّه، وتحقّق تدبيره الخلاصيّ الذي كان مخفيًّا منذ الدهور: هنا صار كلمة اللَّه إنسانًا، وأعلن إنجيل الملكوت؛ هنا ارتفع صليب الفداء، وتقدّس الجنس البشريّ بالحياة الجديدة المنبثقة من القيامة، والجارية في النفوس بحلول الروح القدس؛ هنا تأسّست الكنيسة وأصبحت المسيح الكلّيّ وأداة الخلاص الشامل، ومن هنا انتشرت في العالم كلّه بواسطة الرسل والأساقفة وخلفائهم ومعاونيهم. من أجل هذه الغاية نحن بحاجةٍ إلى التعاون بين كنائسنا في جميع المجالات، من أجل المحافظة على وجودنا وكياننا ورسالتنا، متّكلين على المسيح الإله الذي أرسلَنا، وأكّد لنا «أنّه معنا طول الأيّام حتّى نهاية العالم».
وختم غبطة البطريرك إيريناوس جولته في لبنان بزيارة دير النبيّ إلياس البطريركيّ في شويّا. فكانت لرئيس الدير الأسقف قسطنطين (كيّال) كلمة رحب فيها بالبطريرك إيريناوس فقال: «نطلب صلواتكم من أجل أخويّتنا الناشئة والصغيرة لكي نشهد للحقّ الذي هو المسيح وننقل رسالة الإنجيل، نجتمع اليوم ببركتكم، وببركة إمام أحبارنا، لنكون أقوياء بالربّ، ونقول للعالم الصاخب، إنّنا لا ننظر إلى الوراء، بل نتطلّع إلى الأمام». ردّ غبطة البطريرك إيريناوس شاكرًا وقائلًا: «زيارتنا كنيسة أنطاكية لها مدلولات روحيّة كبيرة، أكسبتنا الغنى الروحيّ والفكريّ والتاريخيّ. تعرّفنا إلى شعبكم الطيّب وأرضكم المقدّسة. هذا ما سننقله إلى شعبنا في صربيا. ذُهلت عندما دخلت هذا الدير المقدّس، لما له من جماليّة روحيّة، وعمق إيمان. حقًّا، شعرنا أنّنا بين إخوتنا وأهلنا. سأكرّر هذه الزيارة، وعبير أنطاكية سيبقى محفورًا في قلبي».n