2019

1. الافتتاحيّة - وجه المسيح - غسّان الحاجّ عبيد – العدد الرابع سنة 2019

المسيح وجه

 

غسان الحاج عبيد

 

 

المسيح وجه. وككلّ الوجوه هو مكشوف أو محجوب؛ وفي الحالَين معًا نحن المسيحيّين مسؤولون. نحن كاشفوه إذا كشِف أو حاجِبوه إذا حجِب. يقول السيّد في يوحنّا 46:12: «أنا نورًا أتيت إلى العالم»...؛ فإذا قرأنا قوله هذا ربطًا بقوله في متّى 14:5: «أنتم نور العالم...»، نستنتج أنّ قوله الأخير هذا تكليف صريح لنا بأن نكون نحن نورَه الذي به يطلّ على العالم. أجَل، هذه مسؤوليّتنا، بل هذه مهمّتنا. لقد أُعدّت وجوهنا لتكون أيقوناتٍ حيّةً لوجه المسيح، تَشِفّ عنه وبه تطلّ على العالم، بل به تقرأ العالم وتنيره. لكنّنا أَخطأنا وأَثِمنا فأَظلمَت وجوهنا حتّى باتت أستارًا كَمْداءَ كثيفةً تحجب وجه السيّد وتحجب نوره عن العالم. واقع الحال- المؤسف طبعًا- أنّ وجه المسيح الحقيقيّ، مسيح الإنجيل، محجوب. واقع الحال أنّ الذين تَسَمَّوا باسم المسيح ما كانوا لوجهه شفّافين فبقي وجهه محجوبًا، وتاليًا مجهولًا، وفي هذا جحود.

أَليس جحودًا أن يبقى محجوبًا وجه المسيح الذي وَحّد نفسه بالفقراء والغرباء والأسرى والمظلومين والمشرَّدين والموجوعين والحزانى... ومقهوري الأرض قاطبةً؟ أَوَليس جحودًا أن يبقى محجوبًا وجه المسيح الذي ثار في الهيكل على الصيارفة وباعة الحمام وقَلَبَ موائدهم لأنّهم دنَّسوا بيت أبيه إذ جعلوه مغارة لصوص وهو، في الأصل، بيت صلاة؟ أو أن يبقى محجوبًا وجه المسيح الذي ثار على الـمرائين والكذَبة فلم يوفّر من التقريع القاسي الفرّيسيّين الذين تمسَّكوا، زورًا، بناموس الشريعة الذي يسخّر الإنسان للسبت وأهملوا ناموس المحبّة، ناموس الرحمة، الذي يسخّر السبت للإنسان ويرقى بالإنسان إلى المرتبة التي تليق به؟ أَوَليس جحودًا، أيضًا، أن يبقى محجوبًا وجه المسيح الخَفِر اللطيف الذي يحترم حرّيّتك فلا يفرض نفسه عليك فرضًا، بل يقرع بابك وينتظر الجواب، فإمّا أن تفتح له بملء اختيارك وتقبله ضيفًا عليك، أو لا، فلا يقتحمك اقتحامًا بل ينسحب بالخَفَر ذاته الذي طَرَق به بابك؟ أَوَليس جحودًا، أيضًا وأيضًا، أن يبقى محجوبًا وجه المسيح الذي رفض أن يماثل الرؤساء في رئاستهم والسلاطين في سلطانهم، فرأيناه، كما سبق لأشعياء أن رآه، «مثل شاةٍ سيق إلى الذبح ومثل خَروفٍ صامت أمام الذي يَجزّه هكذا لم يفتح فاه. في تواضعه انتزع قضاؤه» (أعمال 32:8 و33)؟...

السؤال الوجوديّ الذي يطرح ذاته في هذا السياق هو هذا: أيّة صورةٍ قدَّمنا، نحن المسيحيّين عن المسيح عَبرَ التاريخ؟ أيّة صورة قَدّمت المسيحيّة التاريخيّة عن المسيح؟ أمّا الجواب فهو هذا: كثيرًا ما أساءت المسيحيّة التاريخيّة إلى المسيح الحقيقيّ، مسيح الإنجيل. ذلك بأنّ المسيحيّين قاطبةً، أفرادًا وجماعات، أداروا له ظهورهم، وقبل أن يصيح الديك أنكروه، ليس فقط ثلاثًا بل ثلاثًا بثلاث. لَكأنَّ بطرس، عندما جَحَدَ السيّد، كان يعلم، مسبقًا، أنّه تارك وراءَه خلفاء، أو أنّه يدشِّن تاريخًا من الإنكارات لن ينتهي إلّا عند قيام الساعة. مع الفارق الكبير بين بطرس والمسيحيّين من بعده: فهو نَدم على فعله وبكى بكاءً مرًّا، أمّا هم فلم يندموا ولم يكتفوا بالتنكّر لمسيحهم، بل -وهذا أَدهى- استبدلوه بمسحاءَ دجّالين كثر من صنع أهوائهم وشهواتهم، من صنع نزواتهم وأطماعهم. أَجَل، إنّ المسيحيّة التاريخيّة أَلحقَت بالمسيح أَذًى كبيرًا، ما جعل عظيمًا من عظماء التاريخ المعاصر، اسمه غاندي، ينتفض لكرامة المسيح -وكان قد قرأ عنه، بل قرأه في الإنجيل، وأعجِب به إعجابًا كبيرًا وتأثَّر به- ويقول للمستعمرين الإنكليز في الهند مندِّدًا بسياستهم: «أنا مغرَم بمسيحكم ولكنّي كرهت مسيحيّتكم. أَعطوني المسيح وخذوا مسيحيّتكم. لم أَجد في مسيحيّتكم المسيح الذي تتكلّمون عليه».

أَجَل، هؤلاء هم مسيحيّو المسيحيّة التاريخيّة. إنّهم يفاخرون بكون مسيحيّتهم مسجَّلةً في بطاقة هويّتهم، وتنتهي المسألة معهم عند هذا الحدّ. يعرفون المسيح انتسابًا في دوائر النفوس ولا يعرفونه انتسابًا كيانيًّا ونهج حياة، ولم يكلّفوا أنفسهم، يومًا، جهد التعرّف إليه في إنجيله ليتّخذوه معلّمًا لهم ومثالًا كما ينبغي لهم أن يفعلوا. ومع أنّ سبل معرفته تيسّرت لهم إلّا أنّهم آثروا البقاء على جهلهم لأنّ المعرفة مكلفة؛ تكلّف مسؤوليّة والتزامًا، وهم يهربون من المسؤوليّة ويؤثِرون أن يبقَوا أَحرارًا من أيّ التزام. علمًا أنّ مَن تَيسَّرت له سبل المعرفة وقَصَّر في تحصيلها تكون خطيئته أَعظم، وذلك تِبعًا لقول السيّد: «لو لم آتِ وأكلّمْهم لم تكن لهم خطيئة، وأمّا الآن فليس لهم عذر في خطيئتهم» (يوحنّا ١٥: ٢٢). خطيئة المسيحيّين في دَهرهم أَنّهم دَهرنوا مسيحيّتهم بَدَلًا من أن يمَسحِنوا دَهرهم. خطيئتهم أَنّهم اتّخذوا من عظماء العالم ورؤسائه نماذج لهم وأهملوا مسيحهم. راقَت لهم عظمة هذا الدهر ولم تَرق لهم «عظمة» المسيح. وربّما لأنّه حذَّرهم من مجانسة العالم في شهوة التسلّط إذ قال لهم: «رؤساء العالم يسودنهم وعظماؤهم يتسلّطون عليهم، أمّا أنتم فلا يكن فيكم هذا...» (متّى ٢٠: ٢٥ و26)، ربّما لأجل هذا أشاحوا وجوههم عنه وأداروا له ظهورهم، حتّى صحَّ فيهم قوله في صالبيه: «إنّهم أبغضوني بلا سبب» (يوحنّا 25:15).

أَجَل، فما خلا الشهداء والقدّيسين الذين يشكّلون لكنيسة المسيح ضمانتها واستمراريّتها، الذين يشفعون فينا ونذكرهم في أعيادهم ولكن، للأسف، لا دَخل لهم في حياتنا، ما خلا هؤلاء وقلّة عزيزةً من المسيحيّين الأتقياء العارفين الأصلاء، المزروعين، هنا وثمّة، في بقاع هذه الأرض الطيّبة يفعلون في ترابها فعل الخمير اليسير في العجين، ما خلا هؤلاء جميعًا لسنا نجد في مسيرة المسيحيّين، تاريخيًّا، ولا في سلوكهم اليوم ما يدلّ على مسيحيّتهم. في الكنيسة الأولى كان المسيحيّون يحبّون بعضهم بعضًا، وكانت هذه المحبّة علامتهم الفارقة التي يشار بها إليهم. أمّا اليوم، فما الذي يميّزنا نحن المسيحيّين؟ ما هي علامتنا الفارقة؟ لا شيء. نعيش حياتنا كما يعيشها باقي الناس وليست لنا فيها بصمة خاصّة تدلّ علينا بأنّنا من تلاميذه. نفرح كما يفرح باقي الناس ونحزن كما يحزنون، كأنّنا لم نقرأ يومًا وصيّة بولس: «لست أشاء أن يخفى عنكم أمر الراقدين لئلاّ تحزنوا كباقي الناس الذين لا رجاء لهم...» (1تسالونيكي ٤: ١٣). يقلقنا الغد كما يقلقهم، فنتهالك مثلهم على متاع الدنيا وفانياتها، كأنّ اقتناءها ضمان البقاء أو هو البقاء la survie، وكأنّنا لم نسمع، يومًا، كلام السيّد على طيور السماء وزنابق الحقل (لوقا 22:12- 31). نراوغ كباقي الناس ونخاصم كباقي الناس؛ وكباقي الناس نساير ونساوم ونهادن ونحابي الوجوه... باختصار، نقارب شؤون حياتنا، العامّة والخاصّة، ونتعاطاها بالذهنيّة ذاتها التي لسائر الناس، وكأنّ الكلام الإلهيّ لا يعنينا، أو كأنْ ليس هو كلامًا للعيش. والنتيجة واحدة: وجه المسيح الحقيقيّ محجوب، فإلى متى؟

ختامًا، تشكّل الأيقونة عندنا -وأيقونة السيّد في الطليعة- عنصرًا رئيسًا من عناصر العبادة، نرفعها في معابدنا ومنازلنا ونقدّم لها الإكرام اللائق ساجدين لمن تمثّله. ولكن، هل كُتب على السيّد أن يبقى وجهه سجين المعابد والمنازل فلا يُرى إلّا في الأيقونة الخشبيّة المـكرّسة؟ حتّامَ نبقيه هكذا سجين الجدران ولا نَطفِر به إلى العالم ليرى العالم وجهه مرتسمًا على وجوه بشريّة من لحم ودَم؟ هذا سؤال وجوديّ حادّ مطروح على ضمائرنا نحن المسيحيّين؛ إنّه برَسم ضمائرنا وينتظر الجواب. وإلّا فلا نستغربَنَّ صرخة غاندي الاستنكاريَّة في وجه المـستعمر الإنكليزيّ، ولا نستهجنَنَّ إلحاد المـلحدين. n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search