2018

1. الافتتاحيّة: أخلاقيّات المنتخِب والمنتخَب - الأب ميخائيل (الدبس) – العدد الثالث سنة 2018

 

أخلاقيّات المنتخِب والمنتخَب

الأب ميخائيل الدبس

 

 

   أعتبرت أكثريّة حكّام الأرض في الأزمنة القديمة والحديثة أنّها تمثّل اللَّه أو إرادته، وأنّ كلّ مقاومة لها هي مقاومة للَّه ولإرادته، وهي تستوجب عقابًا. فالحكم كان إلهيًّا. وامتدّ هذا الاعتبار من العصور القديمة إلى عصور ليست بعيدة عنّا. في محيط هذا النظام الثيوقراطيّ، نتأت جزر مغايرة له كانت، نوعًا ما، علامات فارقة للواقع السائد حينذاك، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر أثينا والجمهوريّة الرومانيّة في حقبة العصور القديمة، وجمهوريّة كرومويل في إنكلترا في حقبة العصور الحديثة.

مع ظهور الإنسانويّة في مطلع القرن السادس عشر، كانتفاضة في وجه فكرٍ دينيّ كبت القدرات الإنسانيّة وعظّم شأن اللَّه على حساب شأن الإنسان وطمس إبداعاته، بدأت المطالبة بالشعب كعنصرحاسم ووحيد في اختيار الحاكم. وبدأ تغييب العنصر الإلهيّ الذي صُوِّر للبشر، وللأسف، وعلى امتداد العصور، أنّه مضادّ لحرّيّة الإنسان وطاقاته. جاءت الثورة الفرنسيّة وتوالت بعدها الثورات في أوروبّا ومجمل العالم، وأنهت ما نسمّيه النظام الثيوقراطيّ، ونادت بالديمقراطيّة. انتقل مصدر السلطة من اللَّه الممثَّل بالحاكم الأرضيّ إلى الشعب الممثَّل بمن ينتخبه. وغدت الديقراطيّة الأكثر سيادة على دول العالم التي أخذت تتسابق في إعلان تحضّرها ورقيّها انطلاقًا من معيار ديمقراطيّتها. والحقّ يقال إنّ هذا النظام، رغم نسبيّته ونواقصه، قد أصبح اليوم، خصوصًا بعد تطوّره وتنوّعه وتلوّنه بخصوصيّات الشعوب التي تبنّته، أفضل ما توصّل إليه الإنسان من نظام يحفظ له الاستقرار والتقدّم. ولا ضرر في هذا من جهة المنظور التاريخيّ- الحضاريّ.

أمّا من جهة المنظور الكتابيّ والإيمانيّ فللمؤمن رؤية أخرى بهذا الخصوص. فكون الشعب مصدرًا للسلطة لا يلغي مصدريّتها الإلهيّة، بل يجسّدها عبر شعبٍ مؤمن باللَّه ويتمثّل به. نحن هنا أمام بعدٍ من أبعاد التجسّد الإلهيّ. اذا راجعنا الكتاب المقدّس (رومية 13: 1- 7. 1بطرس 2: 3- 15. يوحنّا ١٠: ١١- ١٩) نرى أنّ السلطان الأرضيّ، كأداة «لخدمة اللَّه لخيرك ولمعاقبة فاعل الشرّ وللثناء على فاعل الخير»، هو «معطى من عَلُ». مصدره العلويّ نابع من كونه يميّز بين الخير والشرّ ويحكم بالخير و«ينتقم من فاعل الشرّ». ونرى أنّ اللَّه الخالق والضابط الكلّ هو مصدر كلّ السلطات ونموذجها الأوّل. كلّ حكم أرضيّ، لا يكون صورة لحكم اللَّه وعربونًا للملكوت الأخرويّ، لن يكون لخير الناس. إنّ ما يؤمّن ارتباط الحاكم الأرضيّ باللَّه ليس شخصَه بحدّ ذاته أو موقعَه كحاكم، بل ارتباط ُهذا الشخص بمعايير الحقّ الإلهيّ. هذه مسلّمة لا تخضع للتبدّل مع تبدّل الظروف الداخليّة. ما يتبدّل هو طريقة اختيار صاحب السلطان الأرضيّ.

المؤمن لا يعطي، في هذا الزمن، صفة الإطلاق الإلهيّ لأيّ نظام أو سلطة، بل يهتمّ لجعلهما أقرب ما أمكن إلى حكم اللَّه.

مسؤوليّة إحلال حكم اللَّه في الأرض هي للشعب. قول «قم يا اللَّه واحكم في الأرض» يضع كلّ من آمن بهذا الإله أمام مسؤوليّة التزام الحق الإلهيّ المتكشّف له بشخص يسوع المسيح عند اختيار الحاكم الأرضيّ. الحاكم لا يصنعه اللَّه، بل البشر المؤمنون باللَّه، فيكون حينها الأوّل مقامًا من اللَّه لخير الناس. حينها يكون اللَّه مصدر السلطة، وتبقى النسبيّة الصفة الدائمة لهذه الأخيرة، طالما أنّ البشر لا يزالون في ترابيّتهم وسقطاتهم.

تتأثّر معايير رضى الشعب عن الحاكم واختياره له بالقيم والأخلاق التي يتحلّى بها هذا الشعب. «كما تكونون يُولّى عليكم». هذا يعني أنّ اختيار الشعب لحاكمه لا يعكس، بالضرورة، مرضاة اللَّه. هذه لن تتحقّق إلّا إذا كان هذا الشعب ذا خُلُق إلهيّ. فماذا نقول عن المنتخَب والمنتخِب؟

أخلاقيّة المنتَخب تعكس أخلاقيّة المنتخِب. وأخلاقيّة الأخير هي المسؤولة عن نتائج هذا الانتخاب ومفاعيله. من غير المقبول أن تخلع عنك مبادئك الأخلاقيّة لحظة اقتراعك لنائب في البرلمان. من غير المسموح أن تتجاهل لاأخلاقيّة هذا الأخير وأنت تقيمه على أمور دنياك ووطنك.

   مهما سمت المبادئ والبرامج فهي تسقط خلال ممارستها من قبل حاملها اللاأخلاقيّ. مصداقيّة أيّ فريق سياسيّ محكومة بمقدار تقارب سلوك أعضائه وأخلاقيّتهم مع المبادئ التي ينادي بها. ساقطة، برأيي، بالنسبة إلى المسيحيّ، مقولة أنّ الشخص غير مهمّ وأنّ الأهمّ هي البرامج والأفكار، فالمسيحيّة ديانة شخصانيّة قائمة على شخص يسوع المسيح البريء من العيب، منه تنبع البرامج والمبادئ لتترجَم قوانين وسلطات ومؤسّسات.

معيار الأخلاقيّة واضح في الكتاب المقدّس: خير مصلوب وشرّ صالب، محبّة لا تتناقض مع الثواب والعقاب. كلّ مخالفة لهذا المعيار أثناء الاقتراع، ستحمّلك مسؤوليّة إقصاء حكم اللَّه عن الأرض ومسؤوليّة طمس حدث قيامة المسيح ليحكم بيننا. اختر من قلّت عيوبه وسمت أخلاقه وارفض كلّ من مزج بين الحقّ والباطل ودافع عن مرتكب لمصلحة آنيّة ذاتيّة.

   ويبقى السؤال: ما هو الحقّ؟ هذا ما سأله بيلاطس ليسوع أثناء المحاكمة بعد أن قال له يسوع: «لو لم تُعطَ السلطان من علُ، لما كان لك عليّ من سلطان» (يوحنّا 19: 11). لقد ربط الإنجيليّ يوحنّا السلطان بالحقّ الذي كان بيلاطس يستفهم عنه أو ربّما يجهله.

الحقّ ليس نسبيًّا ولا متبدّلًا. «أنّ يسوع هو هو، أمس واليوم وإلى الأبد» (عبرانيّين 13، 8). فيا أيّها المسيحيّ، لن يكون اختيارك لممثّليك سليمًا إن لم يرتوِ من الحقّ المتمثّل بالكلمة الإلهيّة والأسرار المقدّسة. n

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search