2018

6. اللغة طريق الطفل إلى اللَّه - د. جورج معلولي – العدد الثاني سنة 2018

 

اللغة طريق الطفل إلى الله

د. جورج معلولي

 

يتشكّل السلوك الدينيّ وينمو كما ينمو اكتساب اللغة عند الطفل. اللغة الأولى عنده، المسمّاة اللغة الأمّ، تتأصّل في ذاكرة الطفل التي تستدخل كلمات وصيغًا كلامية وضعها أجداده. في فترة يكون فيها الدماغ متقبّلاً بشكل خاصّ هذا التعلّم (بين الشهر العشرين والشهر الثلاثين من العمر)، يمكن للطفل تعلّم أيّ لغة يتكلّمها الأشخاص الذين تربطهم به علاقة اهتمام وعناية. التعلّق الأوّل باللغة الأمّ وبإله عائلته يتمّ في هذه الفترة الحسّاسة من النمو.

عندما يسمح النموّ العصبيّ للطفل بأن يدخل عالم اللغة والكلام، يصبح بالإمكان أن ينقل إليه والداه صورًا عن اللَّه في كلمات. تتلوّن علاقة الطفل باللَّه بنوعيّة العلاقات التي اكتسبها من والديه. يمكن للطفل أن يحبّ اللَّه في مناخ يغلب عليه الإحساس بالأمان، إن تكلّم عليه الوالدان بطريقة مطمئنة (كأن يظهروا له مثلاً أنّ اللَّه يعتني بنا). ويمكن للطفل أن يختبر اللَّه في علاقة خوف إن نقل إليه الوالدان صورة إله قاسٍ. ويمكن له أن يكره اللَّه بحسب المناخ الذي يعيش فيه. البنية الكلاميّة والاستعارات والصور التي ترسم له اللَّه في القصص التي يسردها ذووه وطقوس مجتمعه تختم نوعيّة علاقته باللَّه والسلوك الدينيّ.

ابتداء من السنة الثالثة تتوضّح الشبكات العصبيّة في الدماغ تحت تأثير الأحداث في محيط الطفل. وبين السنتين السادسة والثامنة يصبح الطفل قادرًا على أن يقول كيف يتصوّر اللَّه وهل يحبّ الصور التي نقلها والداه عن اللَّه. انتقال هذه الصور عبر القصص الدينيّة والطقوس يفسّر السلوك الدينيّ العابر للأجيال. فاللغة تمكّن الطفل من أن يتعامل مع صور كلاميّة تدلّ على أشخاص أو أشياء ليست في المدى المنظور والملموس لعينيه ويديه. اللغة طريق إلى عالم مجرّد أو غير منظور. وعندما تتّصل الشبكات العصبيّة المختصّة بالتفكير التجريديّ والاستباقيّ بالشبكة العصبيّة المختصّة بالمشاعر والانفعالات يصبح الطفل قادرًا على تصوّر الموت (في عمر 6- 8 سنوات). يسرد له المحيط عن عالم ما بعد الموت وتنتج من هذا السرد قواعد سلوكيّة وأخلاقيّة في كثير من الأديان. يخفّف هذا السرد من الخوف من المجهول ويرمي بعض إضاءات على المستقبل. يربط السرد الدينيّ الواحد بين أعضاء العائلة أو الجماعة الدينيّة ويشعرهم ببعض أمان.

عندما ينمو الطفل في مناخ عائليّ يكره اللَّه يتعلّم هنا أيضًا لغة والديه وتصوّراتهم العدائيّة تجاه اللَّه أو السلوك الدينيّ. وعندما يصل إلى سنّ تمكّنه من تصوّر الموت، ينقل إليه محيطه تصوّرات أخرى (غير الإيمان) ليطمئنه، ويربطه بجماعته، ويؤثّر في سلوكه. قد يقدّم له صورًا عن أوتوبيا اجتماعيّة أو فردوسًا من النجاحات المادّيّة بحسب النظام الاقتصاديّ السائد.

أمّا المحيط العائليّ الذي لا يقدّم شيئًا للطفل ويحرمه القصص والتصوّرات الضروريّة لمرافقة نموّه، فهو يحكم عليه بأن يهيم في عالم من دون أحلام ولا طموحات، ضائعًا في صحراء من غير معنى، فريسة سهلة للمتطرّفين الآتين من كلّ صوب ليقدّموا له إطارًا واضحًا يشعره بالأمان (مهما كان هذا الإطار متطرّفًا أو أصوليًّا أو بدائيًّا). 

لا يمكن لصورة اللَّه اللغويّة أن تكون موجودة في كلمات عند طفل لم يكتسب اللغة بعد، وهو لم يتجاوز الثالثة من عمره. في السنة الثانية من عمره يفهم الطفل أنّ الأشياء تستمرّ في الوجود، وإن اختفت في مجال نظره (إن أخفاها الوالدان مثلاً أو غيّرا مكانها). إذًا، يفهم أنّها توجد في مكان آخر لا يستطيع تخيّله. وبين السنتين السادسة والثامنة يصبح الطفل قادرًا على أن يسرد أحداثًا من ماضيه، ويربطها بحاضره. تقوده هذه القدرة إلى عالم يتجاوز الحواسّ. ويمكن للإنسان هكذا أن يفهم أنّه يأتي من أجداد ماتوا قبل ولادته، وأنّه بعد موته سيكون موجودًا في عالم آخر لا يدركه.

الانفعالات والمشاعر أيضًا لها حصّتها في النموّ. فالمولود حديثًا كالإسنفنجة على صعيد المشاعر والانفعالات، ملتقى من الأحاسيس الآتية من صميم جسده ( الجوع والبرد والشبع ...) ومن الذين يحيطون به (في فرحهم وتعبهم واعتنائهم به). يصبح الطفل في الرابعة من عمره قادرًا على تمييز ما يأتي منه وما يأتي من الآخرين. تدعوه العلاقة الآمنة التي تربطه بوالديه إلى أن يخرج من ذاته وأن يختبر ما يختبر ذووه. ويتعلّم معتقداتهم كما تعلّم لغتهم. يمكن للطفل أن يقول: «عندما أصلّي مع عائلتي، أختبر شعورًا لذيذًا بالانتماء إلى المجموعة التي تحضنني. هنا لا يعود المحيط مجموعة محضة من الأحاسيس، بل يغدو شبكة من الكلام والسلوك والمعتقدات تخلق عند الطفل شعورًا بالأمان والانتماء الدافئ. يخبرونه عن الإله الذي يعبدونه والأجداد الذين أحبّوه. يصلّون معًا، ويلتزمون معًا طقوسًا منها الجسديّة والغذائيّة والكلاميّة. يشارك الطفل في حركات الطقوس، ويستمع إلى سرد القصص، ويشعر بأنّه واحد من هؤلاء. يقرأ على وجوههم انفعالات متنوّعة ومشاعر وتمكّنه الصلوات الجماعيّة والليتورجيّة وإضاءة الشموع وحركات الجسد من ربط هذه المشاعر والأفكار بانتماء واسع يشارك فيه شخصيًّا.

بين السابعة والرابعة عشرة من عمره، يحبّ الطفل اللَّه كما تعلّم أن يحبّه من ذويه. قد تكون هذه العلاقة آمنة أو باردة أو متوتّرة وغير مستقرّة أو مزدوجة على صورة علاقته بوالديه وعلاقتهم بإلههم. في المراهقة قد يحبّ اللَّه أكثر أو بطريقة أخرى ومكان آخر أو قد يشعر بالخَدر في هذه العلاقة وربّما يرفض هذه المعتقدات ويبحث عن غيرها. في هذه الفترة الدقيقة قد تتحوّل العلاقة بالله بطرائق عديدة.

يدعونا جهازنا العصبيّ في نموّه في فترة الطفولة إلى تجاوز عالم الحواسّ المباشر إلى عالم اللغة أي إلى عالم من المعاني المجرّدة. يملأ أحبّاؤنا الذين اعتنوا بنا هذا الفضاء قصصًا وحكايات تمثّل من هو ليس من هذا العالم. وهكذا بشكل طبيعيّ نرتقي إلى ما يتجاوز الطبيعة. ويتّصل الطفل باللَّه بأحاسيسه ومشاعره وعقله النامي. ويصبح إله أجداده إلهه أيضًا.n

المرجع:

Boris Cyrulnik. Psychothérapie de Dieu. Edition Odile Jacob 2017.   

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search