2018

3. حول الحبّ والجنس والزواج في ألمانيا - أسعد إلياس قطّان – العدد الثاني سنة 2018

حول الحبّ والجنس والزواج

في ألمانيا

أسعد قطّان

 

 

يُعتبر النصّ الذي أصدره الأساقفة الأرثوذكس في ألمانيا، بعنوان «رسالة من الأساقفة الأرثوذكس في ألمانيا إلى الشباب حول الحبّ والجنس والزواج»، تدشينًا لخطاب جديد في الكنيسة الأرثوذكسيّة في ما يختصّ بهذا الموضوع الشائك. ولقد صدر هذا النصّ بشكله الرسميّ يوم الثاني عشر من شهر كانون الأوّل من العام 2017، وذلك بعد موافقة الأساقفة الأرثوذكس عليه في جلستهم الدوريّة التي عُقدت في فرانكفورت في اليوم ذاته.

من اللافت، بادئ ذي بدء، أنّ الأساقفة الأرثوذكس قرّروا أن يعطوا نصّهم هذا طابع الرسالة الرعائيّة الموجّهة إلى الشباب مبتعدين، قدر الإمكان، عن اللغة اللاهوتيّة الصرف التي اتّصفت بها وثائقهم السابقة، والتي تناولت مواضيع كالتزام الكنيسة الأرثوذكسيّة العمل المسكونيّ ووهب الأعضاء والدفن عبر الحرق. إنّ قرارًا من هذا النوع استتبع أن تأتي لغة الوثيقة التي نحن في صددها غايةً في المباشرة: «نتوجّه إليكم بهذه الرسالة راغبين في تناول عدد من المسائل الآنيّة. إنّ العالم يزداد صغرًا، وقضايا زمننا الملحّة تظهر بوضوح أكبر. هذه القضايا تمسّ الوجود الإنسانيّ برمّته - وجودَكم: إنّ اللَّه يضع الحاضر والمستقبل بين يديكم». تضاف إلى ذلك محاولةُ الوثيقة شرح ماهيّة الحبّ في العلاقات الإنسانيّة، عبر الاستنجاد بالفصل الثالث عشر من الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، الذي يشار إليه في العادة بعبارة «نشيد المحبّة»: «أن يحبّ الإنسان شخصًا آخر، هذا يشكّل هبةً غير مشروطة. حين أحبّ، أعزف عن أن أكون نقطة المركز في وجودي. المحبّة شعور كلّيّ وديناميّ، وليست مجرّد رغبة عابرة».

لعلّ أبرز ما يميّز هذه الرسالة الرعائيّة هو تشديدها على الحرّيّة الشخصيّة بوصفها عطيّةً من اللَّه وتعبيرًا عن الصورة الإلهيّة في الإنسان: «وإنّنا نرى في قدرة الإنسان على اتّخاذ قراراته بحرّيّة مَعلمًا من معالم هذه الصورة الإلهيّة». والحقّ أنّ هذا التعليم ليس جديدًا في الكنيسة الأرثوذكسيّة، بل هو يضرب جذوره في التراث، ولا سيّما في اعتبار عدد من آباء الكنيسة أنّ حرّيّة الاختيار التي يتمتّع بها الإنسان الفرد هي واحدة من أبرز مركّبات الطبيعة الإنسانيّة المخلوقة على صورة اللَّه، وأنّها لم تندثر بفعل الخطيئة رغم جنوح الإنسان بعد سقوطه إلى اختيار الشرّ ورفض الخير. ولكنّ جديد الرسالة الرعائيّة التي نتناولها بالتحليل هو ربط مفهوم حرّيّة القرار، ذي المصدر الكتابيّ والآبائيّ، بموضوع الحبّ والجنس، ما يؤدّي إلى اعتراف واضعي الوثيقة ضمنًا بحرّيّة الفرد في اتّخاذ خياراته الجنسيّة، بما فيها العلاقات قبل الزواج، طبعًا مع التشديد على حسّ المسؤوليّة الذي ينبغي أن يواكب أيّ قرار يختصّ بالحياة الجنسيّة: «في زمننا الحاضر، يختبـر كُثُر من الشبّان والفتيات علاقات جنسيّة قبل الزواج. حيال ذلك، غالبًا ما يُطرح السؤال عن موقف الكنيسة الأرثوذكسيّة من هذه المسألة. إنّ دور كنيستنا هو مواكبة المؤمنين بالنصح الروحيّ، لا إطلاق الأحكام على نحو آليّ. طبعًا، هذا الموقف لا يرخّص للفلتان الجنسيّ. فنحن نشدّد على ضرورة أن يأتي السلوك الفرديّ مسؤولاً لا حيال الحياة الجنسيّة الشخصيّة فحسب، بل حيال حياة الشريك/الشريكة الجنسيّة أيضًا، وكذلك حيال النتائج التي يمكنها أن تنجم عن الحياة الجنسيّة. إنّ المسؤوليّة تكون أمام الذات، وأمام المجتمع، وأمام اللَّه».

بالإضافة إلى ما سبق، تتوقّف الرسالة الرعائيّة مطوّلاً عند مسألة الزواج المدنيّ، وهو بحسب قوانين الدولة الألمانيّة ضرورة تسبق في العادة أيّ زواج دينيّ. بخلاف وثائق المجمع الأرثوذكسيّ الذي انعقد في كريت العام 2016، والتي تتّخذ من الزواج المدنيّ موقفًا ملتبسًا، نجد أنّ الأساقفة الأرثوذكس في ألمانيا يثمّنون الزواج المدنيّ بوصفه يضمن المساواة في الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة ويشكّل قاعدةً صالحةً للزواج بين مَن ينتمون إلى أديان مختلفة: «في حال رباط عابر للأديان، يشكّل الزواج المدنيّ طريقًا يمكن سلوكه. فهو ضمانة قانونيّة تكفل أن يتمتّع الزوجان بالحقوق ذاتها». ورغم أنّ الأساقفة يشدّدون على أنّ إتمام سرّ الزواج في الكنيسة الأرثوذكسيّة في حال رباط زوجيّ عابر للأديان غير ممكن، لكون هذا السرّ يفترض إيمانًا مشتركًا بالثالوث القدّوس، إلاّ أنّهم يعبّرون عن رغبتهم في مواكبة الزواجات العابرة للأديان ويشجّعون أصحابها على الحوار وعدم كبت أسئلتهم المعلّقة: «إنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة في ألمانيا تودّ مواكبة الذين يختارون رباطًا عابرًا للأديان على درب حياتهم، إذا هم رغبوا في ذلك. وهي مستعدّة، في كلّ وقت، لتقديم الدعم لهم قولاً وفعلاً. كما أنّنا نحثّ هؤلاء على أن يتطارحوا معًا، قبل الزواج وبعده، تلك الأسئلةَ الناتجة من الاختلاف الدينيّ، ولا سيّما تربية الأولاد، بصراحة تامّة وروح بنّاءة». كذلك يؤكّد الأساقفة أنّ تخلّي الشريك عن شريكه لمجرّد انتمائه إلى دين آخر لا ينسجم مع هبة الحرّيّة: «إنّ الابتعاد القسريّ عن الشخص المحبوب لأسباب تختصّ بالانتماء الدينيّ لا يتّفق والحرّيّة المعطاة لكلّ إنسان في صفته مخلوقًا على صورة اللَّه».

طبعًا، لا ينحصر الأساقفة الأرثوذكس في كلام على الزواج المدنيّ، بل ينصرفون إلى شرح معاني الزواج الكنسيّ في كونه يضع مؤسّسة الزواج البشريّ على مستوى محبّة اللَّه غير المشروطة، التي استعلنت بموت ابن اللَّه على الصليب وقيامته. في هذا الإطار، هم يستعيدون الموقف الأرثوذكسيّ التقليديّ الذي ينظر إلى الأطفال على أنّهم عطيّة من اللَّه مؤكّدين رفضهم أيّ شكل من أشكال الإجهاض. ولكنّهم يشدّدون، بالقوّة ذاتها، على أنّ الزواج مبارك ومقدّس حتّى بلا أطفال حاسبين أنّ «التفكير في حجم العائلة هو جزء من حياة مسيحيّة مسؤولة»، وذلك بخلاف النزعات الأصوليّة في الكنيسة الأرثوذكسيّة التي تعتبر الإنجاب الهدف الأساس للزواج وترفض كلّ شكل من أشكال تحديد النسل. ولئن يستبعد واضعو النصّ إمكان اتّخاذ موقف رعائيّ يتيح للشريك المسيحيّ غير الأرثوذكسيّ المشاركة في القدسات، غير أنّهم يقرّون بمدى الألم الذي ينطوي عليه موقفهم هذا معتبرين المسألة تحدّيًا يجب أن يحدو الكنائس على بذل مزيد من الجهد في سبيل استعادة الوحدة: «والحقّ أنّ موقف كنيستنا في هذا الشأن هو أنّ المناولة المشتركة تفترض وحدةً كاملةً في الإيمان، ما هو غير متوافر في الزواجات المختلطة. غير أنّه حريّ بنا أن نعترف، بتمام الصدق، بأنّ هذا الوضع مؤلم جدًّا، وبأنّه يشكّل تحدّيًا لاهوتيًّا. لذا، نسأل اللَّه أن يعيننا على تخطّي الانقسام والوصول إلى اتّحاد الكلّ في وقت قريب».

ربّما يكون أبرز إنجاز لهذه الرسالة الرعائيّة الجديرة بكلّ تقدير هو كلامها على المثليّة الجنسيّة. ولعلّها الوثيقة الرسميّة الأولى في العالم الأرثوذكسيّ التي تعزف عن اعتبار المثليّة خطيئةً أو مرضًا مقرّةً بجهلها ماهيّة هذه الظاهرة: «من الثابت أنّنا ما زلنا، إلى حدّ بعيد، نجهل كيفيّة نشوء المثليّة الجنسيّة. ولئن تكن هناك عوامل وراثيّة ونفسيّة وثقافيّة ممكنة، فإنّه ليس ثمّة وضوح بالنسبة إلى الدور الذي يضطلع به كلّ من هذه العوامل، وكيف يرتبط بعضها ببعض». فضلاً عن ذلك، فإنّ واضعي الوثيقة يحجمون عن اعتبار النصوص الكتابيّة التي تدين المثليّة الجنسيّة، أو بعض أشكالها، ذات مرجعيّة نهائيّة: «ثمّة في الكتاب المقدّس، بعهديه القديم والجديد، آيات ضدّ المثليّة نشهد اليوم نقاشًا في مدى قيمتها من دون الوصول إلى رأي موحّد». ولكنّ الأساقفة الأرثوذكس، حيال ما شهدته ألمانيا في الأشهر المنصرمة من نقاش تناول اقتران المثليّين، لا يبدون تردّدًا في رفض أيّ إمكان لمنحهم سرّ الزواج الكنسيّ، وذلك لكونه يقوم على قاعدة اقتران الرجل بالمرأة: «في فهمنا الأرثوذكسيّ، يفترض سرّ الزواج ارتباطًا بين رجل وامرأة، وهو يتخطّى البعد الاجتماعيّ الصرف. بناءً على ذلك، فإنّ زواج المثليّين في كنيستنا غير ممكن. أمّا الأسئلة المعلّقة في شأن المثليّين، فتنتمي إلى نطاق الرعاية والمواكبة اللبقة في الكنيسة. إنّ البشر جميعًا مخلوقون على صورة اللَّه. لذا، يجب أن يكونوا كلّهم موضع احترام يليق بحضور هذه الصورة الإلهيّة في الإنسان. هذا ينطبق على رعايانا أيضًا. فهذه مدعوّة إلى محبّة البشر قاطبةً وتقديم الاحترام لهم». ولعلّ الملاحظة الأخيرة المرتبطة بالرعايا الأرثوذكسيّة تومئ إلى امتناع بعض الكهنة في الكنيستين الروسيّة والرومانيّة عن إعطاء المناولة المقدّسة للمثليّين.

لا ريب في أنّ هذه الرسالة التي رفعها الأساقفة الأرثوذكس في ألمانيا إلى الشباب تختطّ منهجًا رعائيًّا جديدًا في التعامل مع واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في عالم اليوم. وهي، بكلّ تأكيد، تسعى إلى أن تكون مختلفةً لا من حيث لغتها فحسب، بل من حيث المضمون أيضًا، وخصوصًا من حيث الأسلوب الذي تعرض به هذا المضمون، وما تستعيده وما تسقطه وما تحتفظ به. فالنصوص لا تفسَّر بالاستناد إلى ما تقوله فحسب، بل أيضًا بالنظر إلى ما لا تقوله، وإلى كيفيّة القول. وليس من المبالغة في شيء الاعتبار أنّ هذه الوثيقة نجحت في إظهار أنّ قول الكنيسة الأرثوذكسيّة النظريّ بالحرّيّة الشخصيّة له مستتبعات ونتائج في الحياة اليوميّة، وخصوصًا حيال موضوع الجنس، لا يمكن، بعد اليوم، التعامي عنها أو تهميشها...n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search