البشارة كلمات ومضامين
الأب ميخائيل الدبس
لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد (أعمال 17: 28).
تمّ، تحت لواء هذا العنوان، الاحتفال بالذكرى الخمسين لتأسيس الحركة. رغبتي في أن نعود إليه في الذكرى السادسة والسبعين، عسانا نستشرف، عبر تعمّقنا في مدلولات هذه الآية الكتابيّة وفي سياق اندراجها في سفر أعمال الرسل (أعمال 17: 16-34) بقلم الرسول لوقا وعلى لسان الرسول بولس، أحد أهمّ أوجه وجودنا الحركيّ وفعله في الكنيسة الأنطاكيّة.
هذه الجملة والجملة التي تلتها، «ونحن أيضًا بنوه» لا تعودان، في الواقع، إلى الرسول بولس. الأولى مستقاة من شعر يُنسب إلى Epimenidis ، والثانية إلى الشاعر Aratos ، وكلاهما لم يكونا على دين توحيديّ. الجملتان، اليوم، تحملان مضامين مسيحيّة لم تحظَ بوعي كلّ من الشاعرين المذكورين. فضمير الهاء يعود إلى الإله زفس. يكمن السبب في أنّ رسولاً مسيحيًّا استخدمها في بشارته أهل أثينا.
في مناظرة بولس مع «الأبيقوريّين والرواقيّين» نعته هؤلاء «بالثرثار» (الآية 18)، لكونه يكلّمهم على «يسوع وقيامة الأموات». لم يُنْجح مسعى بولس التبشيريّ نحوهم، ولو جزئيًّا، إلاّ أمران أوّلهما حبّهم للمعرفة، «فالأثينيّون والأجانب النازلون عندهم كانوا يصرفون أوقات فراغهم في أن يقولوا أو يسمعوا شيئًا جديدًا» (الآية 21). فالجديد الذي يتلفّظ به بولس هذا، وإن كان عندهم ثرثرة، أثار رغبتهم في معرفة «هذه العقيدة الجديدة» (الآية 19). وثانيًا أنّ بولس نقل إليهم يسوع والقيامة بلغتهم، إذ بدّل قاموس خطابه وصوره وتشابيهه، وذلك واضح في هذا المقطع الكتابيّ.
ساروا به إلى الآريوباغوس، وهذا تلّ كان يجمتع على قمّته مجلس مدينة أثينا. أثينا قمّة الفلسفة والفنون والعلوم، هل تصلح لبشارتها عبارات العهد القديم؟ وهو العارف بها أكثر من غيره، لكونه «اتّبع أكثر مذاهب ديانته تشدّدًا فعاش فرّيسيًّا» (أعمال 26: 5). خاطبهم «كأكثر الناس تديّنًا» (الآية 22)، مع أنّه كان قد «ثار ثائره في أثينا إذ رأى المدينة تملؤها الأصنام» (الآية17). لكنّه تجنّب تكفيرهم وانطلق يبشّرهم بالإله المجهول «يعبدونه من دون أن يعرفوه» (الآية 23). إذ وجد، وهو يتجوّل بين معابدهم، «معبدًا كُتب عليه إلى الإله المجهول» (الآية 23). ما لا شكّ فيه أنّه كان يُعتقد، في حقبة نشاط الرسول بولس التبشيريّ، أنّ Epimenidis هو من أدخل عادة بناء معابد كثيرة على اسم آلهة مجهولة. لفتته هذه الظاهرة، ورأى فيها جسرًا يصل كرازته المستغربة عند الأثينيّين بأفكارهم ومعتقداتهم الدينيّة. فتّش ليطّلع على أشعار هذا الشاعر المعروف حينها عند الجميع، عساه يجد فيها ما يقرّبه من أفكار الأثينيّين. عثر بين دوائر الرواقيّين في أثينا على مؤلّفته متداولة في أوساطهم، فوجد في العبارة التي وردت في أعمال 17: 28 ضالّته، فاستشهد بها في خطابه في وسط الآريوباغوس.
لم يكن بولس الوحيد بين أترابه المبشّرين من استخدم أقوال عصره وتعابيره لبلوغ عقول المبشّرين وقلوبهم. البشارة، أيًّا كان مضمونها، لن تبلغ الناس إلاّ عبر ما ألفوه من تعابير. المسيح، في كرازته، لم يبتدع عبارات جديدة. المخلّص، ابن اللَّه، ابن الإنسان وغيرها، كانت كلمات سائدة ومألوفة عند الناس وتحمل مضامين واضحة. هكذا فعل الرسل في بشارتهم، ومجمل الآباء القدّيسين خلال حقبة الصياغات العقائديّة للإيمان المسيحيّ. ليس المهمّ عندهم مصدر كلماتهم بل ما يُسكب فيها من مضامين.
وبعد، هل ما زالت البشارة تعني لنا شيئًا في عيدنا؟ ألم يدعُنا المؤسّسون إلى تنصير النصارى؟ من الضروريّ اليوم أن نخاطب الآخرين وألاّ نكتفي بإلفتنا بعضنا لبعض، وأن يكون خطابنا مألوفًا عند من هم بعيدون عن مسيحنا ومسيحيّتنا، أن نتجنّب تكفير من هم على غير حالنا وأن نرى فيهم، بعد أن نتخطّى «ثائرنا» الغريزيّ، ما رآه الرسول بولس في أهل أثينا «الممتلئة مدينتهم أصنامًا» (الآية 16) «أكثر الناس تديّنًا في كلّ وجه» (الآية 22).
كلماتنا، وإن حوت مضامين مسيحيّة، تبقى غريبة عمّن هم بعيدون عن المسيحيّة. كلماتهم، وإن فرغت من مضامين مسيحيّة، هي سبيلنا إليهم إن سكبنا فيها مضامين مسيحيّة. هذا لن يتحقّق إلاّ إذا تحرّرنا من نرجسيّتنا الأدبيّة وانطلقنا نفتّش عن بذور الكلمة الإلهيّة الكامنة في علوم عصرنا ولغته وفي عقول البشر وهمومهم وقلوبهم.
أدعو إلى أن تكون هذه المجلّة منبر بشارة لكلّ قلم مؤمن، صاحب علم ومعرفة، لأن يسخّر كلماتهما لتكون مركبًا حاملاً روح محبّة اللَّه وفرحه وسلامه لنصارى منطقتنا ولكلّ إنسان يحمل صورة اللَّه.n