2015

7. تحقيق: المطران جورج (خضر): رسول الكلمة الحقّ - لولو صيبعة – العدد الخامس سنة 2015

 

 

المطران جورج خضر: رسول الكلمة الحقّ

لولو صيبعة

 

­­منذ خمس وأربعين سنة يتربّع سيادة المطران جورج (خضر) على كرسيّ أبرشيّة جبيل والبترون وما يليهما جبل لبنان، وخلال هذه السنوات عرفت هذه الأبرشيّة نموًّا روحيًّا يشهد له القاصي والداني، فبنيت الكنائس ونشأت الرهبنات، والأهمّ أنّ سيادته هو الذي أسّّس حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. وها هي اليوم هذه الحركة تكرّم مؤسّّسها بحضور حشد كبير من أبناء الرعايا الذين تقاطروا إلى مركز إميل لحّود الثقافيّ في ضبيّه، حيث استمعوا إلى كلمات ألقيت في المحتفى به وشاهدوا شريطًا وثائقيًّا عن نشأة أبرشيّة جبل لبنان في العام 1901 بعد انفصالها عن أبرشيّة بيروت، وعن الإنجازات التي تحقّقت في هذه العقود الأربعة.

وكان البدء مع الأب يونس (يونس) كاهن رعيّة السيّدة في المنصوريّة. وعن »المطران جورج خضر، الأب الملهِم« قال:

»عندما تمّت دعوة صاحب السيادة المحتفى به إلى هذا المحفل البهج، سأل: ما الموضوع؟ قيل له: المطران جورج (خضر). فانتفض قائلاً: كيف هذا؟ هل يكرَّم بشر؟ كنت أعرف رأي سيّدنا، فهو لا يرضى بكلام على سوى الربّ. الربّ هو الألف والياء. وهذا ما زاد من تردّدي في الكلام على قامةٍ أفضل ما تفعل أمامها هو الصمت، إذ هو أيسر، حيث لا خطر فيه. إلى أن أتاني صديق وبّخني، قال: »المطران جورج نور أضاءه الروح في سماء أنطاكية، فبدّد ظلمات حالكة وأنار دروب الكثيرين. تكلّم على عمل الروح في أحبّته، فالإكرام هنا يجوز إلى الأصل«. عند ذلك هداني شجاعةَ أن أتكلّم.

تربّى صديقي هذا في بيئة علمانيّة، غير ملحدة، ولكن بغربة تامّة عن الكنيسة، إلى أن أصبح طالبًا جامعيًّا. وفي لحظة افتقاد، اقتاده الروح إلى قاعة مخفيّة، في أسفل كنيسة صغيرة، كان سابقًا يتجاهل وجودها بجوار منزله. كان باب القاعة من حديد يتآكله الصدأ، أمّا في داخلها فقلوب تتوق إلى أن تزيل صدأ قديمها، وتتجدّد بالكلمة الإلهيّة ونعمة الروح المنسكب في الكأس المقدّسة. هي تعابير جديدة بات يسمعها ويستطيبها فتنعشه: »الكأس المقدّسة«، »الكلمة الإلهيّة«، »نعمة الروح القدس«، »التوبة«، »النهضة«... ومع هذه كلّها، كان هناك اسم يتردّد على شفتي إخوته الجدد: »المطران جورج خضر«. ما من اجتماع أو لقاء أو نشاط لم يكن حاضرًا فيه، إن بتعليمه أو سلوكه. بات صديقي، قبل أن يعرفه، يحبّه ويوقّره.

سأل عنه مرّة أباه الذي، بحسب تعبير المطران جورج في تأبينه، أتى من يسوع الناصريّ لأنّه جاهد في سبيل الفقراء والمكدودين والمسحوقين في الأرض. فقال له أبوه: »جورج خضر رجل صادق، فهيم، صاحب مبدأ، لا يتاجر بدينه«. هي المرّة الأولى التي سمع فيها أباه يتكلّم، بإعجاب وتقدير، على »رجل دين« أيًّا كان، مسلمًا أو مسيحيًّا. هذا من تأثير المطران جورج في الذين في الخارج.

راحت معرفة صديقي بأسقف كنيسته تتوطّد شيئًا فشيئًا بسبب الكلام الذي يسمعه من الإخوة الكبار، ومن قراءة نشرة رعيّتي وبعض الكتب التي وُضعت بين يديه. أصبح اللقاء حاجة مطلوبة بل ضروريّة، وتمّ في صبيحة يوم الربّ. لا يمكن أن ينسى ذلك القدّاس الإلهيّ. كان أسقف الجبل يقرأ من كتاب الكهنة، لكنّه كان كمن ينحت الكلمة نحتًا، يحرّك شفتيه لكنّ الكلام يصدر من داخله، من قلبه. كان يصلّي كأنّه في مكان آخر، قل في مكان أبعد، هنا وليس هنا. أين يصلّي هذا الرجل وأمام من يرتجف ويَدمع... »يا معلّم حسنٌ أن نكون ههنا« (لوقا ٩: ٣٣). كلّ ما قرأه صديقي لاحقًا حول الليتورجيا والعبادة والصلاة وكيف يدخل الإنسان في شركة مع اللَّه، وكيف أنّ الصلاة غذاء للإنسان وبهجة للروح، كان سهل القبول والإدراك لأنّه سبق له أن صلّى بإمامة هذا الشيخ. جذّاب سرّه في إنشاده وقراءته ووعظه. وعظُه! ما هذا السلطان، ما هذه الحلاوة! من أين يأتي هذا الكلام الذي لم يسبق لك أن سمعت مثله. يثبّت صديقي نظره على هذا المارد المتكلّم، فيراه يتطلّع، بين الفَينة والأخرى، إلى فوق، إلى ذلك المكان الأبعد عينه. كان كأنّه يسمع ثمّ يتكلّم. هل هنالك من يلقّنه الكلمات؟ هل الدنيا تمطر كلمات؟ ثمّ يقول صديقي في نفسه لماذا أنت مأخوذ هكذا في هذا التعليم الذي يفضحك، ويكشف صدأك وتفاهتك. فَهمَ قبل أن يقرأ في كتاب الحياة »أنتم الآن أنقياء بسبب الكلام الذي كلمتكم به« (يوحنّا ٣: ١٥. أُدخِلَ في سرّ الكلمة الصادقة، الفاحصة، المنقّية، المحيية. فأصبح الكلمةُ غذاءً دونه الموت. كُشفت له خبرة الآباء القدّيسين الكبار بأنّ »هذه المائدة التي في وسط الكنيسة تعني، عند العالِمين، المحكمة. هذه محكمة المسيح الذي سيَدين الناس. وإذا انتصبت أنت مع المؤمنين أمام المائدة فلكي تُحاكَموا، ليس في اليوم الأخير فقط، ولكن صبيحة كلّ أحد... اللَّه جدّيّ كثيرًا، ووضع أمامك الإنجيل لكي يحاكمك هنا حتّى لا تحاكم فوق. ووضع الكأس المقدّسة على المائدة لكي ترتجف وأنت تقترب إليها« (أذكروا كلامي، ص. 200).

وتوالت اللقاءات، وكان الوجه يزداد إشراقًا والظلمات تنقشع، وكثرت القراءات وكان المَعين لا ينضب ولا يعتَق، إلى أن قرأ صديقي في نشرة رعيّتي: »نريد طلاّب لاهوت« (رعيّتي، العدد 19، السنة 1993). توقف كثيرًا عند عنوان مقالة راعي الأبرشيّة قبل أن يقرأها. سمع صوتًا يقول له إنّ المطران لا يخاطبك أنت، جامعتك تنتهي بعد أيّام معدودة وفرص العمل في الخارج مفتوحة أمامك. عاد فجأة إلى تفاهته، وأجّل إلى الغد عمل اليوم. سافر وحمل معه جواهر ثمينة أتته من كاهن رعيّته، الذي الكثير من قلبه ومن عقله يجيء من المطران جورج: إنجيل، كتب صلوات وكتب أخرى معظمها يحمل توقيع جورج خضر.

بعد أقلّ من ثلاث سنين عاد ملاك الأبرشيّة، الذي يأتي من ثبات المسيح الذي لا يعرف يأسًًا، ينادي أبناءه في نشرة رعيّتي: »نحن بحاجة إلى طلاّب لاهوت« (رعيّتي، العدد 27، السنة 1995). سمع صديقي صوت اللَّه من جديد: إلى أين تهرب، يا يونان؟ ترك العالم ليعود إليه من باب آخر، من رحاب تلك القاعة في أسفل الكنيسة الصغيرة. وعادت القاعة بطنًا له. ولقي هنالك تشجيعًا واصطحبه إلى المطرانيّة كاهن رعيّته، كبير إخوته الذين بات شريكهم في الحياة الجديدة.

كانت المرّة الأولى التي يُعطى له فيها أن يجلس على شرفة النعمة المشعّة بنور يأتي جنوبًا من الشمس وغربًا من سيّد الدار. أفكار كثيرة أخذته، لماذا تندهش من بساطة الدار وسيّدها؟ لماذا تتفاجأ بشعورك أنّك تجلس في مكتبة؟ ألم تقرأ في أرض الغربة سيرة القدّيس باسيليوس الكبير، وكيف باع ذهب مطرانيّته وعاش فقيرًا من المال غنيًّا بالنعمة؟ ألم تقرأ أنّه في أثينا ما عرف سوى طريق الجامعة وطريق الكنيسة. هكذا يكون رؤساء الكهنة، أو هكذا يجب أن يكونوا.

ينقلك المطران جورج دائمًا إلى مكان أبعد، في الصلاة يرفعك؛ في شرحه ومواعظه يجعلك تغوص إلى أعماق نفسك لتغسلها بالكلمة الإلهيّة؛ في مجالسه يعطيك أن ترى نفسك في حضرة عظماء كباسيليوس الكبير وإغناطيوس الأنطاكيّ ويوحنّا الذهبيّ الفم وغيرهم؛ وفي سلوكه وأحاديثه العفويّة يعرّفك إلى هامات نسكيّة كبيرة مثل سيسوي ومريم المصريّة. هؤلاء يحملهم المطران جورج على كتفيه ويأتي بهم إليك. يخجل صديقي، بعد أن أصبح الآن كاهنًا، إذا استسلم مرّة للتعب. ألا تتابع نشاط المطران؟ لا يعرف الرجل الراحة، لا يغيب عن خدمة أو صلاة، لا يرفض مقابلة إنسان أكان في وقت مناسب أو غير مناسب. لقد جالسه مرّات عديدة طالبًا مشورة أو تشجيعًا أو شاكيًا متاعبه، والتعب والألم ظاهران على جسد المطران، ولكنّه ما ردّه مرّة أو جعله يشعر بأنّ الوقت غير مناسب. ألا تراه لا يتعب من الصدمات تأتيه من خارج الكنيسة ومن داخلها أيضًا؟ هل نسيت كلامه الذي خاطبك به أنّ »الكاهن الحسّاس، المؤمن، العميق يتعب«. ألم يخبرك بأنّك في الكنيسة سوف تأتي »مرّات تحسّ أنّك وحدك، أنّهم عزلوك، وأنّهم ليس لهم صبرٌ عليك«. ألم يرشدْك إلى أنّ »لك تعزيات إذا عرفت أن ترتمي على صدر المعلّم وأن تسمع نبضات قلبه، وأن تمتلئ من هذه الكلمات التي لا يسوغ النطق بها«. إنهض من تعبك، واثبت في الحقّ، واذهب إلى من كُلّفت بهم وقل لهم ما علّمك إيّاه: »ها قد سمعتُ الكلمات من فوق، خذوها إذا أردتم أن تحيَوا، واتركوها إذا آثرتم أن تموتوا« (أذكروا كلامي، ص ٣٥٧- ٣٥٩).

تعرّف صديقي إلى وجوه كنسيّة كثيرة، ولكنّه كان دائمًا يسأل نفسه هل يصحّ أن ترى الكنيسة كلّها قائمةً في شخص. ارتاح باله عندما تعلّم أنّ واحدًا من الآباء الكبار، الذين حفظوا استقامة الرأي، قال ما معناه: »أنا الكنيسة«. الكنيسة ممكن أن تكون قائمة في شخص وجهُه يبقى منارة متلألئة إذا ما أظلمت الوجوه.

سيّدي، آن أوان طلب المغفرة، لا لأنّي قلت ما قلت، »فهل أنت بحاجة إلى أن تبرّر قولك إنّك تبصر الشمس بضيائها« (وجه ووهج، ص.10)؟ أطلب المغفرة لأنّك أبًا وملهمًا علّمتنا أنّ شأننا أمام الضوء أن ننشد التوبة، أن نستدرّ المغفرة. فزِدْ ضياءً«.

ثمّ كانت كلمة السيّدة زهيدة درويش جبّور، التي حملت عنوان »المطران جورج (خضر) في مسالك المعرفة والعشق الإلهيّ« فقالت:

»ينسج الكلمات عباءةً تشفّ لأعين العارفين فتنقلهم إلى حدائق النور حيث نسمات الروح هي النَفَس. قلمه انسكاب لقلبه المسكون بعشق إله فاض عليه بالنعمة تتجلّى محبّةً للآخرين، ودخولاً في سرّ الكون حيث التسبيح حبل لا ينقطع. إن قرأته صرت معه إلى قربانيّة تلغي الحدود بينك وبينه، وترفعكما معًا إلى ما هو أعظم من كلّ وجود وأوسع من كلّ كيان. وإن رأيته تيقّنت أنّ ما قرأته ممّا خطّت يده ليس سوى ذاته، فكرًا وإحساسًًا وتجربةً، وأدركت أنّ حياته وفكره في تناغم ووئام. فلا تستغرب بعد ذلك، دمعةً تلتمع في عينه فجأةً، أو اختلاجًا لصوته في الحنجرة، وأنت معه في حوار تلمسٍ لوحدانيّة الحقّ عبر تنوّع الوجوه واختلافها. أديب هو، لكنّه لا يمارس الأدب إلاّ كمرقاة إلى اللَّه وطريق عبور إلى قلوب الآخرين. وهو مثقّف واسع الاطّلاع لكنّ الثقافة في رأيه ليست هي ذاتها المعرفة، تلك لا تتأتّى عنده إلاّ لمن تحلّ عليهم النعمة، هؤلاء المطَّهرة قلوبهم. وهو صوفيّ في تجربته إنسانويّ في فكره، يصبو إلى اللَّه، وتسكنه محبّة كبيرة للبشر؛ عنده أنّك إن أحببت اللَّه فأنت بالضرورة محبّ لمن خلقه إلهك على صورته ومثاله وجعله له خليفة في الأرض. هي المحبّة لبّ المسيحيّة التي تبقى في عمقها صوفيّة بامتياز إذا ما اعتبرنا التصوّف شهوة إلى اللَّه وتجاوزًا للأنا نحو السوى. هنا المعرفة حدسيّة بامتياز معرفة وصل ووصال تمدّ جسورًا عبر ما يبدو في الظاهر متفرّقًا متباعدًا، ذلك بأنّ كلّ موجود إنّما هو للَّه، في مبتداه ومنتهاه؛ لا يبخس جورج خضر العقل حقّه غير أنّه يخضعه للقلب وهو مرآة النور الإلهيّ الذي به وحده تُكشف الحجب، وتضيء النفوس فتسقط بينها الحواجز. والعقل كيلا يسقط في الكبرياء يلزمه تواضع القلب لأنّ »المحدقين إلى وجه اللَّه وحدهم يحرّكون العالم كما ينبغي. ما عدا ذلك مضخَّة بلا ماء، علوم بلا معرفة، مجتمعات بلا تقابل، رصف كلمات بلا لغة«. تلك كلمات جورج خضر، كلمات ليست كالكلمات فهي قول صدق وشهادة إيمان.

ليس الكون »سوى كتاب تهجئة«، يتلمّس فيه العارفون سمات اللَّه، ويسلكون مسالك وعرة يعبرون فيها إلى ما خفي من الأسرار، ويقرأون ما لا تستوعبه الحروف. فتسقط عن أعينهم غشاوة المألوف ويكشف لهم اللَّه عن سرّه في خلائقه؛ يعلّمك جورج خضر: »أنّ اللصوق باللَّه من طريق الدعاء الموصول وخبرة المحبّة تجعلك دائمًا مبصرًا ما يكمن تحت الحروف من موقف اللَّه وأخلاقه«، فتستطيع أن تتذوّق الكلمات، »وترمي عنها الأثواب الفضفاضة التي ألبستها إيّاها عقول لا تنفذ إلى اللبّ، ولم تنزل عليها أنوار من السماء، ولم يقذف اللَّه في قلوب أصحابها نعمة الحركة إليه«. تصبح الكلمات حضورًا يقول الغياب لأنّ فيها مساحات واسعة للصمت الذي يتكثّف فيه كلّ الكلام ويصير فيه العراء امتلاءً. هذه اللغة أنت لا تختزلها في معادلات عقليّة، وأنت لا تقاربها من خارج بل هي تلجّ إليك فتحوّلك، وأنت تنفذ إلى سرّها إذا دخلت في شراكة السعي إلى وجه ربّك. فتضيء أمامك الكلمات الغامضة بنور مصدره قلبك المشدود إلى الإله، تقرأها ببصيرتك لا ببصرك. لغة للنخبة؟ أجل هي كذلك، إن كانت النخبة نخبة القلوب لا نخبة العقول. يسير جورج خضر على درب سبقه إليها عاشقون كبار في التصوّف الإسلاميّ والمسيحيّ، يستلهمهم ويستحضرهم ليعيش معهم شراكة التجربة: ابن عربيّ، الحلاّج، النفريّ، مريم المصريّة، ورابعة العدويّة. في أدبه دعوة إلى مجاهدة النفس وكبح رغباتها وتطهيرها من شوائب الدنيا، كي تستعيد ألقها الذي بثَّه اللَّه فيها نفحة من سناه. فالصوم والصلاة ليست فروضًا نؤدّيها أو طقوس عبادةٍ نمارسها، بل معراجًا للنفس وتطهيرًا للقلب، استعدادًا لتقبّل النعمة: »الصوم ترويض للعقل على الكلمة حتّى لا يبقى سواها فيه«. حين تتعرّى من كلّ مجد وتزهد بكلّ ملك وتتحرّر من كلّ شهوة، يظهر لك العالم عريه ويكشف عن خوائه فلا تبهرك جمالاته الزائفة. حين تدرك أنّك عدم لولا الرحمة يحضر فيك اللَّه ليملأك، حين تفتقر تغتني، حين تنسحق تنوجد، وحين تشفّ يتكثّف حضورك؛ تصبح الحياة فضاء للتسامي وامتحانًا لقدرة المخلوق على التحرّر من ترابيّته لكي يحترق بالنور. في أدب جورج خضر صفحات متألّقة تضاهي في روعتها وصدقها أجمل ما كتب من قصائد في العشق الإلهيّ، وتكشف عن قلب يذوب وجدًا، وعن نفسٍ صارت بعمق التأمّل على شفافيّة كبيرة. علاقة المتصوّف باللَّه حميميّة، فهو لا يعي نفسه إلاّ منظورًا بعين اللَّه ويرى اللَّه مقيمًا في ذاته، حضورًا يغنيه عمّا عداه، ويمدّه بالنعمة تحلّ عليه بهاءً روحيًّا، واستقامة وتقوى؛ يقرأ جورج خضر في كتاب نفسه فيكتب: »كلّيّة اللَّه فيك مبتدأ ومنتهى، تتجلّى في فضائل هي جنّات نور، وبذلك تعاين النور الإلهيّ لأنّ كلّ فضيلة من فيضه«. هذا هو حضور الإله الحيّ. إله الفلاسفة مستقلّ عن الوجود، منفصل عن الانسان، أمّا إله العاشقين فهو جوّانيّ يسكن ثنايا الفؤاد فتفيض الوجوه بالنور يتنزّل عليها رضًى ورحمة، وقد جاء في القرآن الكريم: »نور على نور يهدي اللَّه بنوره من يشاء«، »وما بكم من نعمة فمن اللَّه«. عاشق اللَّه يسلم نفسه إليه بكلّيّته، يتخلّى عن فردانيّته، ينسحق أمام حبيبه، يفرح بضعفه، لأنّه مدرك أنّ فقره إلى اللَّه هو عزّه وأنّ حاجته إليه هي استغناؤه، وأنّ عبوديّته له هي حرّيّته. يحدّث جورج خضر نفسه قائلاً: »أنت إذا زهدت بما في يديك وفي عينيك يصبح المولى هو يديك وعينيك. وإن زهدت بجسدك يصير هو قامتك... المحبّ يصبح كلّه ملك الحبيب ويمتصّه امتصاصًا، ويناجي الحلاّج ربّه منشدًا: »مثالك في عيني وذكرك في فمي/ ومثواك في قلبي فأين تغيب«؛ نورد هذا لنلفت إلى أنّ التصوّف تراث مشترك بين المسيحيّة والإسلام، وأنّ التجربة الصوفيّة تشكّل مساحةً واسعةً للقاء بل للتناغم والوحدة، ذلك بأنّ اللَّه فيها لا يكشف عن نفسه باللغة بل خارج كلّ لغة، في حركة الشوق والوجد والانجذاب.

ليس عاشق اللَّه بالضرورة منقطعًا عن الناس، ولا الصومعة وحدها مكان الأبرار؛ أن تبذل نفسك للآخرين، أن تشارك آلام المعذّبين، أن تشقى مع المقهورين، أن تبدّل التعاسة بالفرح، اليأس بالرجاء، الأنانيّة بالغيريّة، هو في قاموس صاحبنا ترجمة لعشقك للَّه وإملاء محبّتك له. أنت لا تنعتق من العالم إلاّ لتعمّق التزامك بصنع خلاصه، وإن ملك اللَّه عليك نفسك سكبتها للآخرين.

الانفتاح على الآخر ليس إذًا عنده مجرّد فضيلة أخلاقيّة، بل هو ترجمة عمليّة لقناعة مرتبطة بجوهر الإيمان. الآخر ليس امتدادًا لأناك، ولا هو نقيضك بل هو مساعدك على اكتشاف نفسك بالمعيّة وعبرها. العلاقة هنا غير محكومة بجدليّة الذات الموضوع، الهيمنة الإذعان، بل تصبح تفاعلاً حيًّا، تبادلاً في العطاء، تواصلاً في المحبّة. هذه الإزائيّة تلغي المواجهة، لتكون وصالاً؛ في المواجهة تحدٍ وتشكيك وعنف؛ الإزائيّة حوار شفافيّات. فيها الآخر مجلى نفسك كما أنّك مجلى نفسه حين القلب مرآة. في المواجهة تبقى الأنا المستكبرة سجينة نفسها، في الإزائيّة تلغي الأنا ذاتها في النحن. الإزائيّة لقاء حرّيّتين في حركة تجاوز نحو التجدّد. الحرّيّة تلغي العبوديّة وتحلّ مكانها الرحمة. تلك تتجلّى في المحبّة، وفق النظرة المسيحيّة، ويجعلها الإسلام صفةً من صفات اللَّه هو »الرحمن الرحيم«. الرحمة؟ كم هي مفقودة اليوم في عالمنا المستسلم لطغيان القوّة المنتشية بنفسها؛ التواضع؟ كم نحتاجه في زمن الاستكبار: استكبار العقل المنتشي بمنجزاته، الواثق من قدرته على فكّ ألغاز الكون والسيطرة عليه؛ استكبار الأغنياء وقد تجمّعوا عصاباتٍ وشركات عابرة للقارّات تستعبد شعوبًا بأسرها؛ استكبار المثقّفين المدّعين احتكار المعرفة المتعالين على البسطاء؛ استكبار أدعياء الدين الذين يستبيحون الدماء باسم إله سجنوه في قوالبهم الجامدة. في وجه كلّ هذا القبح يزرع المطران (خضر) كلماته بذور جمالٍ في تربة تراثٍ روحيّ مشترك بين المؤمنين إلى أيّ دين انتموا. في كلّ ما يكتبه دعوة إلى رفع حواجز الخوف والعداء، إلى اكتشاف الآخر لا لكونه غريبًا بل لكونه مكمّلاً لذاتك أو صورةً من صورها المتنوّعة التي لن تتعرّف إليها إلاّ به وعبره. هذا سلوك أصيل الانتماء إلى الثقافة العربيّة المشرقيّة التي تبقى الروحانيّة إحدى خصائصها الأساسيّة، وليس في ذلك ما يضيرها كما يرى بعض المنبهرين بعقلانيّة الغرب ومادّيّته، بل هو مصدر ثرائها. إنّها دعوة إلى إعادة اكتشاف هذه الروحانيّة في ذواتنا وفي تراثنا الدينيّ المتنوّع، فنشفى من حالة الانفصام في الشخصيّة حيث التناقض كبير بين الفكر والوجدان، بين العقل والنفس. وهذا لا يتحقّق إلاّ بممارسة قراءة نقديّة يقظة لبعض المفاهيم من أجل استنباط مفاهيم جديدة، انطلاقًا من تراثنا الحيّ تعبّر عن هويّتنا وتصلح لأن نؤسّّس عليها قيمنا وأنماط سلوكنا. ليس الحوار الإسلاميّ المسيحيّ كما يدعو إليه ويمارسه هذا المطران العابر لحدود الطوائف والأديان، ترفًا فكريًّا أو كلامًا منمّقًا على المنابر وفي المنتديات. إنّه فعل يصدر عن إيمان عميق بأنّ الروح يهبّ أنّى يشاء، وأنّ للَّه قصدًا في تنوّع الأديان، وأنّ كلاًّ منها يشقّ دربًا للوصول إليه. المؤمن الحقّ لا تأسره عقيدة ولا مؤسّّسة لأنّه يعرف أنّ سبل اللَّه لا تحدّ. لذلك لا يجد المطران المتأصّل في أرثوذكسيّته غضاضةً في تلمّس وجه اللَّه، كما كشف عن نفسه في القرآن الكريم، ولا يتوانى في الدخول مع المسلمين في معيّة السعي إلى الحقيقة الواحدة جوهرًا المتنوّعة تجلّيات: »ما نسمّيه تراثًا في هذه الأسرة الروحيّة أو تلك ما كان إلاّ قراءة للَّه. ويتّسع الصدر فيجذبك ما يقرأه الآخرون وإن تباينت القراءات فمكان الآخر في القلب القلب كلّه كما يقول الحلاّج. وما عندك من لاهوت أو عند الآخر من علم كلام فتمتمات للحقيقة الربّانيّة يسعى إليها كلّ منّا كيفما استطاع«. أن يحضر المتصوّفة المسلمون في ما يكتب ابن الكنيسة البارّ، أو أن تكثر الإشارات إلى آياتٍ قرآنيّة ليس مجرد تعبير عن فضول ثقافيّ، بل علامة انجذابٍ وتواطؤ قد يبلغ أحيانًا حدّ التماهي. الأصفياء هم دائمًا في وحدة التلاقي لأنّهم العابرون إلى عمق المعنى، يقرأونه ببصائرهم فتسقط عنه الحجب. هؤلاء هم العارفون الذين ميّزهم القرآن الكريم حيث قال: »وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون«. هؤلاء يبقون كيانيًّا أوسع من حدود المؤسّّسات التي تضيق عليهم قوانينها وقوالبها الجامدة وهويّاتها النهائيّة. ولعلّ حضورهم داخلها منقذها من التقوقع والجمود، هؤلاء فعلهم كالخميرة في العجين، إنّهم حقًّا ملح الأرض. »كلّ مؤسّّسة بئر متصدّعة«، لولا قلّة عزيزة تشرّع فيها نوافذ للهواء، وتضخّ فيها حيويّة الحركة. هناك اهتمام واضح في أدب المطران (خضر) بالكشف عن القواسم المشتركة بين الإسلام والمسيحيّة في العقيدة والتراث والحياة. نقرأ مثلاً أنّ »السلام اسم من أسماء اللَّه الحسنى في القرآن. وفي العهد الجديد المسيح سلامنا«، ونقرأ كذلك: »الانشغال عن هواجس الدنيا في صفاء القلب أمر في الإسلام نلتقي معه التقاءً كبيرًا. هذا هو سعينا المشترك إلى الحرّيّة الداخليّة التي هي شرط الرؤية الإلهيّة وتاليًا شرط تجديد العالم«. لا مكان لأيّة عصبيّة في فكر خضر وأدبه وسلوكيّاته، لأنّ انتماءه ليس إلى جماعة المسيحيّين بل إلى المسيح. لذلك يمكن بالقول إنّ مسيحيّة جورج خضر هي مصدر إنسانويّته، لأنّه لا يرى الإنسان مستقلاًّ عن اللَّه ولا اللَّه إلاّ حاضرًا في خلقه. انفتاحه على الديانات الأخرى واعترافه بما تحمله من حقائق إلهيّة إنّما يزيده رسوخًا في مسيحيّته. فهو مسيحيّ كيانيًّا وعاطفيًّا وفكريًّا على تنوّع في الثقافة ومناهل المعرفة. كلمة أخيرة: هذا اللاهوتيّ الراكع أبدًا عند أقدام الصليب، هذا الفقيه المستنير، هذا المتصوّف المتطهّر بالمحبّة، يحمل في ثناياه شاعرًا لا ينظم الكلام أوزانًا وقوافي بل يسكب فيه وجدانه المتشعشع، فيأتي النثر قصائد حين القصيدة إصغاء واستلام للمعنى عند التجلّي أو أنشودة شوق وصلاة«.

أمّا عن كتابات المطران جورج خضر، فاستمع الحضور إلى كلمة الصحافيّ سمير عطااللَّه(1) الذي قال: »عندما التقيت المطران جورج (خضر) أوّل مرّة العام 1971 خُيِّل إليّ أنّني عبره سوف أتعرّف إلى الأرثوذكسيّة في أرقى معالمها. فقد كانت للسيّد الملتحي يومها آية السحر في الخطابة، كما في الكتابة. غير أنّ هذه الصداقة ما أن امتدّت بها الأيّام، حتّى رأيتني أصغي في كنفه الإنجيليّ إلى معالم حضارة العرب وشرح الآيات القرآنيّة. وإذ تعدّدت اللقاءات في مكتب الحبر المدنيّ غسان تويني، تعرّفت إلى صورة أخرى من شخصيّة سيّدنا جورج، هي شخصيّة الإكليريكيّ المدنيّ الواسع الآفاق، الممتزج بالعصر، الغارق في تعقّب العلوم ودراسات الأفكار غربًا وشرقًا وحكماء الصين. تحوّلتُ، وطوعًا، إلى تلميذ في رعيّة سيّدنا جورج المدنيّة، وصرت انتسب إليه، وأنتظر أفكاره وأقواله التي لم يكن قد حصرها بالدينيّات التي تكرَّس لها في الآونة الأخيرة. وكان يحلو لنا، كلّما سافر إلى مكان وعاد، أن نصغي إلى انطباعاته، حيث يتميّز العمق الفلسفيّ عن السرعة الصحافيّة. من رحلاته إلى باريس، إلى رحلاته إلى طهران، إلى زياراته للعالم العربيّ. كان يعود إلينا بنظرة لم ننتبه إليها من قبل، وخصوصًا متسامية عن الفوارق والمفترقات. فأستاذ الحضارة العربيّة يرى إلى الحضارات جميعًا بعينه الثاقبة السمحاء، وقلبه المفطور على تقبُّل القديم بروح العصر وقواعد الحداثة. وكانت لسيّدنا جورج الأناقتان، الكلمة المكتوبة، والخطبة الجميلة، فإذا كتب سحر، وإذا خطب أبهر. وطالما تجلّت هذه الشخصيّة في فرادتها بين الإكليريكيّين، ولطالما بهر طلاّب الجامعة اللبنانيّة وهم يصغون إلى حبر مسيحيّ وكأنّهم يستمعون إلى الشيخ صبحي الصالح أو الشيخ عبد اللَّه العلايلي، أو الآخرين من أئمة الدروس العربيّة. يقول الدكتور أنطوان غطّاس كرم، إنّ جبران ونعيمة وخليل مطران وإلياس أبو شبكة، على اختلاف بوحهم الفكريّ، كانوا نتاج التأثّر بالكتاب المقدّس. سفر الجامعة ونشيد الأناشيد، الذين نقلهم إلينا في أيّة حال، أئمة آخرون مثل عبد اللَّه البستاني، والشيخان اليازجيّان. هكذا نظرنا في البدء إلى سيّدنا جورج، فهو »الأحمريّ« بلغته السامية - أن يكون نتاج البلاغة اليازجيّة البستانيّة، مضيفًا إليها، طبعًا، بلاغات بيزنطية ويوحنّا فم الذهب. غير أنّنا ما عتمنا أن اكتشفنا ذلك المكوّن في بلاغته الرفيعة، أي القرآن والنهج والتراث العربيّ، الذي تعشقه أديبًا ومفكّرًا ورجل دين منفتحًا بلا حدود. ثقافة هي أيضًا بلا حدود. اللاتينيّة واليونانيّة. وجوّال في مرابع التاريخ، وملاَّح في بحار العلوم الإنسانيّة، ورجل في خدمة اللَّه، متقشّفًا، عاليَ النفس، متواضع القلب والروح. وأنّك لا تدري أمطرانيّة هي أم صومعة. ولعلّها مثله مزيج من الاثنتين. واحدة للرعيّة وأخرى للكاتب المبتهل الذي يرفع الصلاة، أو يكتب بلغة الصلاة كيفما تنقَّل. سمّي سيّدنا جورج »أسقف العربيّة«، وهو حقًّا من أمرائها. الشعر يبرق في نثره بوارق بوارق. والمفردة عمل هندسيّ في مبنى مرصوص قائمٍ على أربع زوايا الفكر والرسوخ. ليصيح ديك »النهار« كلّ يوم. ويوم السبت، يعطيها سيّدنا خضر مهابة الكاتدرائيّات ودعة خميس الغُسل. كلّ مقال أطروحة في المحبّة والحياة والإيمان. منبر عالي الروح، وديعُ النفس، وسيع المعارف. يحتفل بك رعاياك في اليوبيلات، وتحتفي بك العربيّة كلّ يوم. ويا سيّدي وصديقي، أنت مهرجان أدبيّ متنقّل«.

وعن الاعتدال في فكر المطران جورج خضر تحدّث الشيخ سامي أبو المنى(٢) نثرًا وشعرًا معبّرًا عن تقديره ومحبّته فقال:

»سيادة المطران جورج (خضر) علمٌ من أعلام الفكر والأدب واللاهوت. معه تغوص إلى الأعماق، لاصطياد الدرر، وترتفع محلِّقًا في سماء العلم والمعرفة، وكأنّه يأخذك بكتاباته وقراءاته إلى ما هو أبعد من المكان الزمان، وما هو أرقى من جماد الكلمة وسطحيّة المعنى، حين يتخطّى الحدود والقيود، ليكتشف، في ما يتعدّى الحرف، ما اكتشفه كمال جنبلاط يومًا، أنّ الإسلام والمسيحيّة واحد، طالما أنّ الحقّ واحد، والإنسان الواحد غاية الأديان. مع المطران جورج (خضر)، ومع أمثاله من النخبة الكبار، تتعدّى شعورك الطائفيّ الضيّق، لتستقرّ في حضرة المحبّة الشاملة، حيث لا وجود إلاّ للجمع، لا للفرقة، وللرحمة، لا للظلم، وللإيثار، لا للأنانيّة، وللكلمة الطيِّبة، لا للعدائيّة والتحريض وشحن النفوس بالكراهية.

مع المطران جورج (خضر)، ترتقي بمسيحيّتك إلى فلسفة حياة، حيث العيش الآمن في كنف اللَّه ومع أخيك الإنسان، فلسفة عنوانها التضحية والعطاء، وترتفع بإسلامك إلى مجتمع الفضيلة والعدالة، حيث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر قاعدة للحياة، ومنطلَق لرقيّ الإنسان وسلامة المجتمع. مع المطران جورج (خضر)، تتذوّق معنى المحبّة المسيحيّة، وتتلذّذ بآيات الرحمة الإسلاميّة، فتُسقط من قاموسك كلمات الحقد وآيات الكراهية، وتأخذك المقاربات الطيّبة إلى كلمة سواء، حيث الاعتدال هو العنوان، والتعامل مع الآخر، على قاعدة الأخوّة والاحترام، هو الأساس؛ وهو القائل، في معرض دعوته إلى التعاطي الإيجابيّ مع الجميع، من دون استثناء: »لك أن تتعاطى أيّ دينٍ بلا صدام ولا كراهية، وألاّ تحشر أخاك في النار، وألاّ تحتكر الجنّة، لأنّك إن فعلت ذلك تكون قد قمت بدينونة استباقيّة، والدينونة عمل اللَّه وحده، فلا تعزل أحدًا من قلبك، وإذا فعلت ذلك لا يكون اللَّه ساكنًا فيك«.

هذا هو المطران جورج (خضر) الذي نعرفه وتعرفه أجيال مضت وأجيال حاضرة، خطابةً وكتابةً ورعايةً وهدايةً، تعرفه، ناطقًا بالحقّ، نابذًا التعصّب، لأنّ التعصّب، برأيه، »لا تلمسه إلاّ عند الذين لا عمق روحيًّا عندهم، ولا انتظار لرحمة اللَّه«؛ مخاطبًا مواطنيه وأبناء أمّته المسلمين، أن تعالوا إلى كلمةٍ سواء، كما خاطب القرآن أهل الكتاب: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إِلى كلمةٍ سواء بينا وبينكم ألا نعبد إلاّ اللَّه ولا نشرك به شيئًا ولا يتَّخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون اللَّه فإن تولَّوا فقولوا اشهدوا بأنَّا مسلمون« (سورة آل عمران، 64)، مقابلاً بين روحانيّة النصّ القرآنيّ، وما يماثله في الأدب المسيحيّ داعيًا المسيحيّين، أوّلاً، »للاهتداء إلى المسيح«، و»لاكتشاف المسيحانيّة عند المسيحيّين، والانفتاح على سرّ قصد اللَّه لهم ولعموم البشر«، ومتطلّعًا إلى المبادرات الإسلاميّة الطيِّبة، واصفًا إيّاها بأنّها »فيضٌ من إسلام حضاريّ يقابله فيضٌ من رقيٍّ مسيحيّ«.

لا مبالغة إذا قلنا إنّ المطران جورج (خضر) بحر من معرفةٍ لا قرار له، وإنّه مثال ومثل أعلى في التقريب والاعتدال يُقتَدى به، وإنّه داعية العيش المشترك، في عمقه الوجوديّ والروحيّ، بامتياز، باعتباره هذا العيش الواحد مرسِّّخًا ومقوّيًا للقيم الحضاريّة الإسلاميّة والمسيحيّة، وأنّ المسلمين والمسيحيّين »مشتركون وجدانيًّا«، وهذا أهمّ، بنظره، »من المواطنة الباردة أو الدنيويّة«، وبأنّ علاقات الناس الطيّبةَ »لا تصطنعها النصوص إذا تباينت، ولا التاريخ إذا اشتدّ، ولكن تصنعها طراوة النفس التي سكنت إلى اللَّه، بعد أن سكن اللَّه إليها«. بهذه الروحيّة الإيجابيّة، يميِّز سيادة المطران بين حقّ كلّ طائفةٍ في أن تكون لها مودّاتها الخارجيّة، وأن تكون لها هويّة خاصّة بها، لأنّ »الهويّات المتعدّدةَ قتّالة«، والطائفيّةَ تعني »أن تجعل لطائفتك مقامًا أعلى من الوطن«. أمّا أن تعيش روحانيّةَ دينك ومعتقدك، وتحترم قوانين وطنك وحقوقَه عليك، وتقوم بواجباتك تجاهه وتجاه شركائك في المواطنة، فتلك هي الوطنيّة السليمة وذاك هو الإيمان الصحيح.

صاحب السيادة، يسعدني ويشرِّفني أن ألبّي دعوةَ الشبيبة الأرثوذكسيّة، والأخ الصديق الأب جورج (مسّوح)، لأهنّئهم بكم، وأهنّئ الكنيسةَ المشرقيّة والوطن بأمثالكم، أطال اللَّه عمرك، وزادك صفاءً وحكمة، ولأشهد أمامك أنّ لنا أخوةً طيّبين من تلامذتك ورفاقك ومحبّيك وأبناء مدرستك، من أهل الاعتدال والحوار، ما يجعلنا معك ومعهم ومن ورائك، نطمئن إلى مسيرة الخير والتوحيد، في بلدٍ يعاني الانقسام باستمرار، ومنطقةٍ تنزف دمًا بين أيدي الظالمين والمتسلّطين والتكفيريّين والإرهابيّين؛ لكنّنا نعدك بأنّنا، معك ومعهم ومن ورائك، مستمرّون بثقةٍ وإيمانٍ، على درب المحبّة والسلام التي مشيت، وفي حمل رسالة التنوّع والاعتدال، التي حملت. واسمح لي، ختامًا، بأن أُحيّيَك شعرًا، لعلّي به أستدرك بعض ما فاتني، نثرًا، من معانيك الغنيّة، وبعض ما قصّرت به من تعابير المحبّة والتقدير.

حَيّيتُ فكرَك، نِعمَ العقلُ والفكْرُ شَممتُ عطرَك، حقًّا إنه العِطرُ

جَمعتُ ذِكرَك في قلبي فأخبرني بما يُخبِّرُ عن أمجادِك الذِّكرُ

سَمِعتُ صوتَك أنغامًا مُقدَّسةً ظننتُها السِّحرَ، لا، ما مَسّها السِّحرُ

قرأتُ نَصَّك، لم أفهمْه، حرّضَني فعُدتُ أَقرأُ حَبرًا، قلبُه السِّفرُ

كأنَّ فيك من الأديان فلسفةً ونعمةُ اللَّهِ، فيها، الحُبُّ والحِبرُ

كأنْ رسالتك التوحيدُ، تَقطفُه من دوحة الزهرِ حتّى يَقطُرَ الزَّهرُ

من طِيبِ شهدِك يَجني المؤمنونَ ولا أَخالُ يَحلو لهم، إلاّ به، العُمرُ

بكَيتَ يومًا على جهلٍ يُحاصرُنا والجهلُ منبَتُه الخِذلانُ والقهرُ

بكَيتَ دومًا على الإنسان، شرّفه الـربُّ العليُّ، فأعمى قلبَه العُهرُ

أعمى البصيرةِ لا نورٌ يُساعدُه لذا تساوى لديه التُربُ والتِبرُ

إلاّ أناسًًا سمَوا في صدقِهم فغدَوا ضمانةَ الحقِّ، مهما استفحلَ الأمرُ

أولاءِ قومٌ، إذا كرّمتَهم كرُمَتْ رسالةُ الخيرِ، إذ همْ للعُلى ذِخرُ

كَمَنْ يُكرِّمُ عِملاقًا، يُجلِّلُه تاجُ التواضعِ، لا جاهٌ، ولا كِبرُ

وَمَن يُكرِّمُ شيخًا، عالمًا، علَمًا معلِّمًا، فيلسوفًا، زانَه الشِّعرُ

لولاه ظلَّ نهارُ الفكرِ مُنتَظَرًا وما صفا الليلُ لو لم يُشرقِ البَدرُ

ولا السيادةُ سادتْ في مَهابتِها لولا الرجالُ، ولولا الحمدُ والشكرُ

حَيّيتُ مَن كرّموا المِطرانَ، مُعتليًا عرشَ الرجاءِ، فطاب القصرُ والنَّصرُ

هو المُكرَّمُ منهم، إنّما هُوَ مَن كرَّم الكلَّ، منه الخُبزُ والخمرُ

أُهديه من جبلِ التوحيد، وهو به الـ راعي الأمينُ، سلامًا، ملؤُه الفخرُ

كأنّما أهلُه، في وحدةٍ، هَتفوا، مع الشبيبةِ، فلتسلمْ أيا خُضرُ«.

وتحت عنوان »جورج خضر ونهضة الكنيسة«، كانت كلمة الأمين العامّ لحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة رينه أنطون الذي قال: »يقودك وجهه إلى حيث تحفر الفتوّة في الأعماق صورًا مرسومةً بألوان الجهل ممهورةً بختم من دم. حينها كنت كيانًا منسوجًا من فقر، ممدودًا في الأزقّة الضيّقة، مطمورًا بغبار ما قبل العهد الجديد. غبارٌ حجب عنك إيقونة الإله الدامع ونصب مكانها نحتًا لإله قاسٍ جبّار يصدّ عنك العبور إلى مكمن جلجلة الحبّ فيك. فعميت عن يد مسمّرة في ضعفاتك ترشح ما تمسح به الألم والجهل والدمع، ومعها عميت عن أنّ هذا الذي ينبسط من جرح شبابك في أرض حارتك العتيقة إنّما هو ما لقّحك به اللَّه من ذلك السائل الذي به ترطّبت خشبة الصليب.

كنت شابًّا تتمتم الصلاة حروفًا وخوفًا، هذا إن لبّيت دعوة جرس الكنيسة واجبًا. كانت الكنيسة مطرح تململ من إله لا معين لك عليه، يفرض شعبه طقسًا لا تفهم منه أو تستسيغ غير الألحان. تلك التي أطلقتها آهات القوم في أذنيك صرخة فخر واعتزاز تعلو على صوت السيّد.

وبقيت، في الإيمان، حيث يجب أن لا تكون. راوحت خارج الجماعة التي تستذوق الفداء، خارج جسر الحبّ الذي يربط الأرض بالسماء، حتّى ذلك اليوم الذي سرّ فيه إليك أنّ كلمةً من ذاك الكلمة يصدح بها نبيّ حبٍّ ومعرفة في كنيستك، وأنّ الكلمات جمّعت لتبنى بها حركة نفض الغبار عنك. فكان لك أن صرت إبنًا، كشف لك نبيّ زمنك بالأمس، وشيخ أنبيائه اليوم، أنّ اللَّه، الذي به تؤمن ومنه تخاف، محبّة، وأنّ الثالوث الذي به تقول محبّة، وأنّ العقيدة، التي أبقتك في استقامة رأي، لا منبع لها ولا نكهة غير المحبّة، وأنّك من تلك المحبّة وجدت وبها افتديت وتخلص. أنت، فيها، كلّ شيء، وأنت خارجها لا شيء. فلك، بعد هذا الكشف، أن تعوم فيها بحرّيّتك لتذوق، وتعرف، منها قدر ما تشاء. وكلّما ذقت وعرفت صرت سفيرًا لكتاب الكلمة إلى أن تحقّق قصد اللَّه من الخلق وتصير أنت الكتاب.

كلّ حديث عن تأثيره في نهضة أنطاكية، وهو ليس فكرًا بل حالة، يوجب الانطلاق من أنّ جورج خضر مرآةٌ لهذه المحبّة. سرّ إبداعه، وتأثيره أنّ عشقه للَّه فاق كلّ عشق وفاض ولعًا بكلّ ما ينهض بكنيسة المسيح ويعنيه. ومن بيت أبيه بدأ، البيت الذي غيّبت جماله وتراثه وغناه بشاعة التاريخ وأخطاء أهله وخطاياهم. بدأ ورشته بسؤال واحد: كيف لي أن أفهم هؤلاء أنّهم مفتدون، لينهضوا إلى »الانخراط في صميم يسوع« فتمسح عن عيني ربّي الدموع؟ وفي مسرى المحبّة بينه وبين اللَّه ردّ عليه الروح: قد يكون الجواب في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، فوثق العاشق واستجاب.

في هذه الحركة، الطريق التي لا تدرك، على قوله، إلاّ بالحبّ، بدأ جورج خضر ريّ شرايين كنيسته بدم معرفة اللَّه، ولا معرفة تعنيه غير تلك الصائرة بالعارف إلى اتّحادٍ بالمصلوب. بدأ بناءه في الشباب، معول النهضة، برجاء أن ينتقل به من الانفعال إلى الفعل لعلّ فعله يكون تحرير كنيسته من أسر تقليديّتها الثقيلة »وحال اللاوعي وقيادتها إلى الوعي«. هذا من دون أن تكتسب حركته ماهيّةً خاصّة، فلا أنا فيها، لأنّ »الأنا في الكنيسة هو المسيح، والأنا في الحركة هي الكنيسة«، والكلام له. لهذا لم ير بناءً بغير أن يسكب الربّ كما عاينه واختبره، وتذوّقه وسكن فكره في حيويّة الشباب. ولم يلتمس ركيزةً للنهضة غير المصالحة مع حياة الكنيسة، وأسرارها، وإنجيل يسوع. صمّ صراخه الآذان »بغير قراءة الكتاب لا نهضة لكم«. بهذه المصالحة، التي دعاك اليها، تبدأ مسيرة توبتك وتقبل تكليف الربّ لك، في جرن المعموديّة، بالمسؤوليّة الشخصيّة عن الكنيسة كلّها. وبقراءة الكتاب تعرف سيّدك، وتلاقي سعيه إليك، إلى أن تتكوّن منه وجهًا وقلبًا وفكرًا ليتكوّن فيك الملكوت. كان همّه، وبقي، أن يذوق الشباب ما ذاقه من وصاله باللَّه صلاةً ويصبّ فيه، وفي شعب كنيسته، ذاك الانبعاث الجديد الذي يكسر ما ألفوه. وإن عرفتم كنيستي، بالأمس، وعاينتم اليوم أيقونة الالتزام والفرح والخدمة والاستقامة التي تبزغ في وجوه آلاف الشباب، تدركون حجم ما كسر، وتعون أنّ الرجل ليس مؤثّرًا في نهضتها فحسب، بل هو مهندس هذه النهضة وبانيها.

وأقلّه، إضافةً، »حرّر« جورج خضر يسوع من أسر الجدران ومسح عنه ما يحجب وجهه الكونيّ، ومعه ما غيّب عن الناس كون »جسده قلب العالم ورجاءه«. هو أفهمنا، وأفهم المؤسّّسة الكنسية، أنّ كلّ ما في العالم محتضنٌ باليدين الممدوتين على الصليب، وأنّ كلّ ما يحوط بنا ويصادفنا ممّا نعتقده، جهلاً، بعيدًا عن الإيمان، بما فيه »السياسة والفنّ والأدب والفكر والثقافة، إن حمل، خارج أسوار الكنيسة، وجه طهر، وبان حقّ اللَّه فيه، كانت الكنيسة فيه«. أيضًا الكلام له. لذا قال جورج خضر »بأن يرمي الكنسيّون أنفسهم في تعمير العالم«، وربّى، بجرأة فكر وحضور، على الشهادة في المحيط لأنّ اللَّه فيه. فصرخ »أنا مرميّ في المصير العربيّ لكون سيّدي مرميًّا فيه«.

داوى كنيسته من أمراض مزمنة أخطرها حجب الكأس المقدّسة عن المؤمنين ما يعني حجب اتّحادهم بالربّ، وبعضهم ببعض في الربّ. صدّ بجرأة الأنبياء أن تكون القنوات الأسراريّة التي تصل الربّ بشعبه سرًّا محجوبًا عن هؤلاء. عالج فيها العداء للعقل والعلم والمعرفة. فلئن كان يقينه أنّ المعرفة العلميّة »دائمًا مطهّرة، وإذا ثبتت فإنّها حقيقة من اللَّه ثابتة في خلقه«، بسط العلم، المتصالح مع القلب، عتبةً من عتبات الصعود الكهنوتيّ المفرحة للربّ، وصار بالمعرفة، المقرونة بعقل متّضع، رغبة إلهيّة. فشعّـت في وجوهٍ كهنوتيّة شبابيّة كثيرة وبها وعى المؤمنون الكثير من شؤون عقيدتهم وطقوسهم.

أهدى جورج خضر الجماعة الكنسيّة إلى حرّيّة مذهلة في المسيح. الحرّيّة، التي على قوله، »تصير بالمطاع فرحًا بتحدّي المطيع له في سعيه إلى الحقيقة«. أهدانا حرّيّةً ترفع، حيث يجب، وطأة الأبوّة والرئاسة عن شرايين الأبناء ليسري إبداع اللَّه فيها. هي الحرّيّة الإنجيليّة التي لا تربية على الخلق من دون التربية عليها، والتي، بفهمه للاهوت الفداء فيها، كسر هو، الأسقف، التسلّط الرئاسيّ في كنيستي. معه شهدت أنطاكية أسقفًا، معلّمًا، يصغي لكهنةٍ وشمامسةٍ وأبناء ينبرون لمخالفته الرأي في أصعب مفاصل حياة الكنيسة وأدّقها.

علّم أنّ الكنيسة جسدٌ إلهيّ يحضر في الأرض حبًّا بجعلها سماء. أن تكون في العالم ولا تكون منه معناه أنّك في صميم العالم رسول، يتعالى عن حاجات الآن وغاياته، لتشدّ الناس معك إلى فوق وتنتظر، معهم الآتي. لهذا  سار بأترابه إلى خارج العصبة، إلى أن يكونوا كنيسةً لا طائفة، جماعةً »لا تستثمر يسوع لمصالح وغاياتٍ طائفيّة وضيّقة«، بل قومًا يحبّون الربّ لا غاية لهم غير أن يستثمروا في الأرض خلاصًا.

فإن بنينا المؤسّّسات، أو أنشأنا الجمعيّات »فليس من أجل أن نثبت هنا، ونفخر بأنفسنا ونملك«، والكلام له. بل من أجل أن تسري طراوة يسوع في عروقنا و»نساعد الفقراء على أن ينتظروا، معنا، الملكوت بفرح«. إن عرفت كنيسة أنطاكية بعضًا من حبّ العطاء وبات للفقراء في ضميرها موطئٌ ومكانةٌ، وتسابق أبناؤها، بعض الشيء إلى حسّ الشركة، وبهت حضور الأغنياء والنافذين في صدارتها، فلأنّ جورج خضر قدّم لها المسيح منكسرًا عند أقدام الفقراء.

عاش هذه الكنيسة يومًا كنيسةً جارحة. جهل خدّامها بسيّدهم يجرح. انهماكها بذاتها يجرح. غربتها عن هموم العالم تجرح. ألم الفقراء فيها يجرح. غربة الشباب عنها تجرح. تماهي التسلّط فيها مع تسلّط التافهين عليها يجرح. رآها كنيسةً تحتاج في جهادها للنهوض إلى ذلك الصلاة التي ترافقها من الجبال والوديان والبراري. رآها كنيسةً تحتاج، حسب قوله، »إلى من يذكّرها بأنّها تحتاج إلى اللَّه«، فدفع الرهبنة فيها من جديد. وإن عمّت، أكثر ما عمّت في أرجاء أبرشيّته فذلك ليقينه »بأن لا شيء يذكّر الكنيسة بحاجتها إلى الحبيب مثل تلك التي حصر أصحابها احتياجاتهم وهمومهم به وحده«.

ولعلّ كان هذا كلّه ليصرخ الرجل فيك بعد تعب: سبيلك إلى الخلاص أن تكتفي باللَّه وحده، وتكون ابن الصليب، أينما اقتضى تكليف الروح لك أن تقيم. فلك وحدك يا ربّ.

يا سيّدي.

حنّ الربّ علينا يوم أبلغنا الرسالة من وجهك بكلمة وماء. وما رجاؤنا إلاّ أن ترأف رحمته بخطايانا يوم يجلس على كرسيّ عدله مسحورًا  بعطر زمنك فينا. فباللَّه، سيّدي أصرخ بعد، رأفةً بنا وبالأبناء. أصرخ وقدّم لنا المسيح دموعًا. فإنّ نفوسنا أدمنتها تنهمر من نبع حبّ السماء، تغسل ما يجرح عرش السيّد في كنيسته الأعماق.l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search